الرمز في شعر عمر شبلي
بقلم د علي أيوب
الرمز في شعر عمر شبلي:
يحضر الرمز بكثافة في شعر” عمر شبلي“، فلا تمرّ على قصيدة له إلّا وترى فيها رمزاً أو شيئاً من الرمز، وفي رأينا أنَّ خصب الرمز في شعر “عمر شبلي” عائد إلى ثقافته الموسوعيَّة التي تذهلك وأنت تحاول أن ترى أبعادها ومراميها النهائية، وثقافة ” عمر شبلي” ليست ثقافة مجرَّدة عن التجربة الإنسانية، إنَّ ثقافته نابعة من احتكاكه الخشن مع الحياة وتجاربها، فالرمز عنده “مرتبط كل الارتباط بالتجربة الشعورية التي يعانيها الشاعر، والتي تمنح الأشياء مغزى خاصاً“([1])
ولعلّ التجربة السياسية التي خاضها ” عمر شبلي” مقتنعاً بمراميها وأبعادها الأخلاقية والقومية، كانت قد جعلته يمارس ثقافته ممارسة ميدانية على أرض الواقع. وحين تنزل الثقافة إلى معايشة الواقع، تحاول أن ترقى به وتشذِّبه من عيوبه. لقد كانت تجربة ” عمر شبلي” مملوءة بالمعاناة والألم والتفجّع، حيث قضى معظم سني شبابه في الأسر والمعتقلات، ولا يُغني الشعر ويخصبه شيء أكثر من تجربة السجن حاجز الحرية والشمس والفضاء. في السجن قضى زمناً يتقلَّب فيه بين مرارة الواقع والحنين إلى الحريّة والأهل والوطن، ولو حاولنا أن نلخِّص ” عمر شبلي” لقلنا إنَّه إنسان مقيم في منطقة القتل بين الحرية والمعتقل. فالشعر عند” عمر شبلي” هو “ الشعر الحق فاعل لا يخاف المواجهة“([2])
لقد صقل الشاعر أحاسيسه وشذَّبها ونقّاها من كل ما هو مظلم، فانقلب ظلام السجن إلى ضوء معرفي وشعوري يفيض بالمحبة والحلم والتوق إلى الحرية. ومن طبع الأسى غسل النفوس من أدرانها.
([1]) عز الدين اسماعيل. الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنيّة والمعنوية. ص16.
[1])) ميشال سليمان. السمو في الشعر. مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت،1401/1981، العدد العاشر، ص25.
إنَّ الكبار الذين تصقلهم التجارب تنمي إنسانيتهم وتجعلها فيّاضة ودافقة في نفوس الآخرين، فإذا كان المتألم شاعراً، فإنَّ شعره يحتِّم عليه نقل الألم إلى الكلمة ونقل الإحساس إلى المفردة، وعندها تصبح الكلمات مرايا حتى ولو كانت محرقة كالشظايا، وإذا نقلنا الكلام على تجربة ” عمر شبلي” مِنَّا إليه، نراه يقول في تجربته: ” السجن حالة متناقضة مع فطرة الإنسان وكينونته، ولذا تنقص إنسانية الإنسان في السجون. وبمقدار ما يتحفز فيه وعيه لنقصه يتحفّز فيه وعي آخر عميق كإنسانيته لاسترداد ما سُلب منها، وخلق إنسانية أخرى بلا حفرٍ مظلمة فيها وبلا عاهات ترافقه طوال فترة سجنه، وبمعنى آخر يكون نضالاً إنسانياً مشروعاً بمقدار سمو الفكرة التي سجن من أجلها، ومع الوقت تغدو الحرية هي الغاية لأنها تضمر الموجود الأبهى كلّه. كان الفضاء ضرورياً، وكانت الشمس إغراءً شهياً، والخروج من الزنزانة/القبر، خروج من الظلمات التي تحتل الروح قبل المكان، وقتها بدأت أعي لماذا اقترن الحزن بالسواد، ولماذا نلبس الأسود في المآتم، وكأننا نقول للناس: إننا في منطقة الحزن فأخرجونا منها بمواساتكم. في السجن تدرك معنى الحرية كوجود وليس كشعار سياسي، تدرك أنَّ اعتقال الحرية يعني حذف الإنسان وإلغاء ارتباطه بحقه في كينونة مكتملة غير منقوصة. ومن هنا تدرك حدَّة الانتماء للحياة عند السجين وحدَّة نضاله من أجلها“([3]).
لقد أسهبنا في الكلام على تجربة ” عمر شبلي”، ومعاناته واحتكاكه الخشن بالأشياء التي عرفها في حياته، وناضل وسجن من أجلها، وهذا يفسِّر لنا عجز الكلام المجرَّد عن نقل كوامن إحساسه الداخلي. فكلما غاص الإحساس في النفس أكثر، أصبحت الكلمات أعجز في نقله إلى الآخر المتلقي، وهذا ما يفسِّر لنا اللجوء إلى الرمز بكثافة وغزارة في شعر “عمر شبلي“.
“يجثم الزمن كالفيل على إحساس الشاعر ويمنعه من استنشاق الهواء. الزمن يُلغى في السجن سوى زمنك الخاص الذي تحاول خلقه باستمرار عبر الحلم، وبكثافة
([1]) فاطمة رسلان. مجلّة شؤون جنوبية ، 19/12/2009.الموقع الالكترونيjanoubia online.com..
تكرار الحلم تدخل في يوغا من نوع يجعل الواقع ملغى ويصبح الحلم هو الواقع، وتكون قدرة الإنسان في تفوقه بقتل الواقع وخلق الزمن الآخر حتى لكأنك فيه. وتحس وأنت تمارس حلمك أنك تشارك الله في الخلق عبر” فراديسك المفقودة”. يبدو أن الذي يشدنا للحياة هو الشوق لمعرفة الآتي بشكل متجدد، فإذا كنت سجيناً، ولا تعرف مدة ” سجنك”، تموت لديك الرغبة في الحياة لأنك تعي تماماً أنَّ اليوم كالغد، وهذه السنة كالسنة القادمة، وهكذا يتحوّل الزمن إلى رماد جاثم فوق وعيك وإحساسك، وبانقطاعك عن الناس تشعر أن الزمن واقف، وتصبح مشتاقاً لاجتيازه، ولو عبر الموت وأرض الزمن الذي يخلو من المفاجأة هو موت في حياة لا يتحرك فيها شيء، ومتى تدخل في الحلم تدرك السكلوب وجزر الساحرات لتوِّكَ أنك في مقبرة مهددة بالحياة“([4]).
لقد كانت رموزه لغة اللغة وإضاءات عليها، ومحاولة تبيان كل الظلمات والمرارات التي عرفها في رموز تحكي وتترك خلفها إيحاءاتها الكثيرة، فالرمز ليس ترفاً فنياً، وإنَّما هو تعبير عن محدودية اللغة التي تعجز عن كشف المناطق المخفيّة، وما يدور فيها من أحاسيس أثناء تجربة الحياة القاسية. وهكذا كما قلنا يغدو الرمز لغة اللغة، لأنَّه يساعدها على الكشف ولو إيحاء، فالإيحاء بغموضه النسبي يعطي مجالاً للنفس ونختاره لترداد المناطق القصيّة في النفس الإنسانية.
” الحلم هو الحياة الحقيقية في المعتقلات الطويلة المدد، والضيّقة المكان. كانت الغربة تتسع في داخلي، وبدأت أغترب أكثر عن وعيي الخارجي، وبخاصة في سنوات الانفرادي التي كنت فيها وحدي والتي استمرت عشر سنين، أما سنوات الأسر الأخرى التي قضيتها مع الأسرى فقد كانت شيئاً مختلفاً تماماً، لقد شعرت وأنا أدخل في معسكر الأسرى بعد عشر سنوات من الانفرادي أنني عائد إلى لبنان. لا يمكن للإنسان أن يعي أهمية الوطن وشدة التصاقه بالعمق الإنساني إلّا في حالة فقد الوطن وهروبه من تحت قدميك ومن محيطك اللاحيوي الذي تتنفس فيه الغربة
([1]) فاطمة رسلان. مجلة شؤون جنوبية. الموقع الالكترونيjanoubia online.com..
باستمرار ومن روحك التي لا يشبهها إلّا تفاصيل الوطن. ولشدة احتياجي إلى وطن، رحت أؤسس وطناً في اللغة، ولم يعد الوطن رمزياً لشدة كثافة إحساسي بحضوره، ورحت أصرُّ على تنمية خيالي عبر تدفق الحلم بعد ممارسات روحية عميقة، وكنت متأكداً أن الخيال المهزوم لا ينقذ، ولا يجعلك قادراً على اجتياح المساحة الزمنية المرعبة التي تحيط بك. وسيجعلني جثة في قبر غير جميل“([5]).
وللمرأة دورها البارز في حياة الشاعر، لاسيّما وأنَّه عاش غربته القسريّة بعيداً عن المرأة التي تمثل له “الفردوس المفقود” حسب تعبيره فيقول:
“أما المرأة فهي بالنسبة للإنسان المعتقل “الفردوس المفقود”، كما كان حضورها ضرورياً في تلك الغربة التي تشبه الموت، فالمرأة في السجن يعدل حضورها الحرية، وهي لا تبرح السجن أبداً وحضورها فيك هو عذاب بمقدار ما هو حلم ضروري لاستمرار دقات القلب في ذلك الصدر المحشو بالقهر والغربة والظلام، لا يمكن أن تتحقق فردية الإنسان إلّا من خلال تلك الثنائية، وانشطار المرأة عنك في ظروف صعبة لا يتيح لك المجال لتكون سوياً، للمرأة في الأسر أسماء أخرى هي أشهى ما يُقدَّم على مائدة وجودك الإنساني“([6])
فيقول ” عمر شبلي” فيها:
“أحبيني، فإنَّ الحب في المنفى يساعدني
وينقذني من الحجر
فقد تُلغي بنفسجةٌ
بنفح عبيرها صحراء
ويملأ غابةً عصفور
أحبيني، فأنت الدفء في ليلي
وأنت النور“([7])
[1])) فاطمة رسلان. مجلة شؤون جنوبية. الموقع الالكترونيjanoubia online.com..
([1]) م نjanoubia online.com..
[1])) عمر شبلي. العناد في زمن مكسور. بيروت، دار الكنوز الأدبيّة، ط2، 1421/2001، ص313.