الشخصية في أعمال “سعيد أبو نعسة”
هبة العوطة
تمهيد :
يقوم هذا الفصل على مهاد نظري ومبحثين أساسيين : يعالج المبحث الأول مجموعة “أغلى من الذّهب”، ويتناول المبحث الثّاني مجموعة “حكايات الزّمن الآتي”، ولقد بدأت بمجموعة “أغلى من الذّهب” لأنّها صدرت قبل الأخرى وهذا يمكّنني من رصد حركة تطوّر الفنّية عند سعيد أبو نعسة.
مهاد نظري :
ليست الشّخصية القصصيّة تسطيحاً لإنسان عادي ترسم ملامحه على الورق، ويقوم بالدّور الّذي رسم له، وإنّما هي في مفهومها “هذا العالم المعقّد الشّديد التّركيب المتباين الّتّنوع… تتعدّد الشّخصية القصصيّة بتعدّد الأهواء والمذاهب والإيديولوجيّات والثّقافات والحضارات والهواجس والطّبائع البشريّة الّتي ليس لتنوّعها ولا لإختلافها من حدود” (1). وقد تطوّر مفهوم الشّخصيّة القصصيّة وتبلور، بعد أن أغنته الدّراسات والأعمال خصوصاً.وعندما جاء الكلاسيكيّون بدراساتهم المتشعّبة على مدى ردح من الزّمن، أكدّوا دور العامل النّفسي الّذي يقف وراء الدّوافع الشخصيّة، ويكون محرّكاً لها، وذلك بغية تصوير العالم الواقعي وتجسيده. فقد كان “الرّوائي التّقليدي يلهث وراء الشّخصيات ذات الطّبائع الخاصّة، لكي يبلورها في أعماله، فتكون صورة مصغّرة عن العالم الواقعي” (2). وأصبحت الشّخصية القصصيّة فرداً ذا تكوُّن مكتمل، من حيث العلاقات العامّة، ومن خلال مزاياها النّفسية، “وإن كانت لا تقوم بأي عمل أو تتصرّف أيِّ تصرّف، لقد جسّدت مباشرة جوهراً نفسيّا” (3).لقد أتى النّقد النبيوي بعد ردح من الزّمن، ليقلّل من قيمة الجّوهر النّفسي للشخصيّة على حساب عوامل أكثر أهميّة. ومن وجهة نظر هذا النّقد، إن هناك إشكالاً مهمّاً رافق تطوّر النّظرة إلى الشّخصيّة. ويرى بعض أصحابه أن هذا الإشكال ينبغي له أن ينسحب على الأدب بأنواعه جميعاً، ويثير قضيّة شديدة الأهميّة، هي العلاقة الأساس بين المتخيّل والمرجعي.وهذه القضيّة تقود إلى التساؤل عن طبيعة هذه العلاقة، وكذلك عن دور اللّغة فيها. إذ أن “الدّاخلي الأدبي لا يطابق المرجعي الخارجي الإجتماعي، لأن الكتابة لها علاقة بالمتخيّل (الذّهني أو المفهومي)، أي بعالم يرتسم في المتخيّل وفاق رؤية ما للحياة، (فكري معين) منزاح لا يطابق واقعاً أو مرئيّا”معيّناً.” (4).
- عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، الكويت، علم المعرفة، العدد 24، 1998، ص 83.
- م. ن. ص. ن
- رولان بارت، مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص، ص 63.
- يمنى عيد، في معرفة النص، ص 11.
ربما يجيب هذا القول عن التّساؤل الأوّل الّذي أثير سابقاً. غير أن هناك حقيقة لا يمكن إغفالها، هي أنّه ليس باستطاعتنا أن نخضع الرّؤية إلى العالم دائماً، وفاق الموقع الإجتماعي المرتكز إلى أرضيّة ماركسيّة. إن هذا التّعليل يتطلّب البحث في مفهوم الأدب، ووظيفته، بشكل عام، ذلك أن “الأثر الأدبي مكوّن أو مصنوع من الكلمات والجمل، وغيرها من التّعبيرات المختلفة، فهو إذن ليس إلّا ما تعبّر عنه الّلغة” (1).
وذلك يعود إلى أن الإعتقاد الصّحيح ربما يكون في النّظر إلى الأدبيّة كما يرى بارت (Barthes)، هي مقاومة جرثومة السّلطة الّتي تحملها الّلغة. بناء على هذه النّظرة، تغدو مهمة الدّارس العمل على كشف عن تلك المقاومة الّتي تواجه اللغة في النّص الأدبيّ، لأن اللغة، بوساطة هذه السلطة، تجذب الكلام، لينضوي تحت قوانينها، وتصنيفها للعالم.
ولذلك فإن من خلال معطيات السّيميولوجيا (Semiology) يسعى الأديب إلى تطويع تلك اللغة، جاعلاً إيّاها خاضعة للتّعبير عمّا يريد.
ولا بد من الإشارة إلى أن هناك فارقاً بين مصطلع (الشّخص) “والمقصود به الإنسان الفرد، كما هو في الواقع وبين مصطلح الشّخصيّة، والمراد به وجودها داخل العالم القصصي “(2)، من وجهة النظر البنيويّة. إن مفردتي الشّخص والشّخصيّة، وإن كانتا تتشابهان في جملة من الصّفات، إلّا أن تشابههما يبقى شكلياً، “لأن معيار الشّخصيّة الرّوائية مستمدّ من أدبيّة الرّواية، وتابع لصوغ النّص التخييلي، وهو نص مغلق مكتف بقوانينه الدّاخليّة” (3).
- وظائف الشّخصيّة :
حاول الباحث بروب (Propp)، تحديد الوظائف للشخصيّة القصصيّة في الحكايات الخرافيّة، ورأى أنها ترتبط بسبع دوائر فعل هي : دائرة فعل الشّرير، دائرة فعل المساعد، دائرة فعل المانح، دائرة فعل الأميرة، دائرة فعل المرسل، دائرة فعل البطل، ودائرة فعل البطل المزيّف. وبناء على توزيع الوظائف ترتكز الحكاية عند بروب إلى أنموذج بسيط يعتمد سبع شخصيات دراماتيكيّة.
وهذا الأنموذج يصرف إهتمامه إلى “وحدة الأفعال التي تهبها القصّة للشخصيّات” (4). بعد ذلك، عرفت نظريّة بروب شيئاً من التّطوير، بخصوص الشّخصيّات وأفعالها على يد المنظر أ. ج. تخريماس (A.J. Gelmas) الذي تحدّث عمّا يسميه ب العوامل السّتة. وهذه العوامل يمكن إدراجها في ثلاث علاقات هي:
- Tzvetantadarov , Qu’est-ce que le structuration?p 108.
- محمد سويرني، النقد البنيوي والنص الروائي، ص 70.
- م. ن. ص 72.
- رولان بارت، مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص، ص 63.
- علاقة الرّغبة :
تعدّ علاقة الرّغبة من العناصر الضّرورية التي ينبغي دراستها في بناء الشّخصيّات. فهي تقوم بوظيفة الجمع بين قطبيّ الذّات / الموضوع. فالذّات هي التي ترغب، وما هو مرغوب فيه هو الموضوع. “وهذه الذات إمّا أن تكون في حال إيصال الموضوع أو إنفصال عنه” (1). وعندما تكون في حال إتصال، فإنها ترغب في الإنفصال، والعكس صحيح.، أي إنها عندما تكون في حال إنفصال فإنها ترغب في الإتصال، وإذا رغب البطل في القصّة، في هدف ما، فإنه يبرم عقداً مع النّفس، أو المجتمع، يقضي بتحقيق هذا الهدف.
- علاقة التّواصل :
إن الدّافع أو المحرّك الذي يحرّك الرّغبة لدى البطل / الذّات هو المرسِل، وهذا يقابله عامل آخر يحقّق الرّغبة من أجله، وهذا هو المرسل إليه “كما أن تحقيق الرّغبة لا يكون ذاتيّا” بطريقة مطلّقة، ولكنّه يكون موجّهاً إلى عامل آخر، أيضاً، يسمى مرسلاً إليه (Distinataire)” (2). إن الفرد نفسه يمكن أن يكون المرسل والمرسل إليه، وقد يكون الوطن، أو المجتمع، أو الحزب أو غير ذلك، وعلاقة التّواصل لا بد من أن تمرّ بالضّرورة، عبر علاقة الرّغبة أي عبر علاقة الذّات بالموضوع. إذا كان المرسِل هو ما يجعل الذات ترغب في شيء ما، فالمرسل إليه يقدّم البرهان للذات على أنها قامت بالمهمّة خير قيام، أو أخفقت في هذه المهمة، أو غير ذلك.
ج. علاقة الصّراع :
من المؤكد أن الذات تواجه عقبات كثيرة، في أثناء سعيها إلى تحقيق موضوعها، وبالتّالي فهي تبذل ما بوسعها لتخطّي هذه العقبات، ومن هنا ينشأ الصّراع. ومن خلال هذا الأخير ينشأ عاملان إثنان متعارضان :
نسمّي الأوّل العامل المساعد، وهذا العامل يقف إلى جانب الذات في صراعها، ونسمّي الثاني العامل المعارض أو المعاكس، ويؤدّي هذا العامل دور عرقلة الذات وإجهاض سعيها إلى تحقيق هدفها. ونستطيع القول إن هذه البنية يمكن أن تتواجد في كل حكي، بل في كل خطاب على الإطلاق.
- حميد لحمداني، بنية النص السردي، ص 34.
- م. ن. ص 35 – 36.
د. العوامل والممثلون :
يمكن للعامل أن يتمثّل بطائفة من الممثلين الذي يشيرون إليه. وعندما بحث “غريماس” (Greemas) في هذه العوامل، أسقط صفة الشّخص / الإنسان الموضوعي عن الشّخصية القصصيّة، ليجعلها قريبة من الشخصية المجرّدة. ويمكن أن يتمثل العامل في مجموعة من الشّخصيّات. بل قد لا يكون العامل شخصيّة، كأن يكون الدّهر، أو القدر مثلاً، وربما يكون مدينة، أو جيلاً من الأجيال. هنا تغدو الشخصيّة مجرّد دور يؤدى في عمليّة القصّ، بصرف النظر عمّن يؤدّي هذا الدّور وبناء على هذا، “فإن التعقيدات التي تنشأ عن تعدّد الممثلين في العمل الواحد أو تعدّد العوامل في ممثل واحد، تؤدي هذه التعقيدات كلّها إلى جعل النّمط الحكائي في أنواعه المعاصرة على وجه الخصوص شائك العلاقات، فيتطلّب تحليله كثيراً من الدّقة والحزر” (1).
يدرس “تودوروف (Todorov) الشخصيّة المميّزة بأدوارها المتحوّلة، وفي علاقاتها بالشخصيّة الأخرى في العمل القصصيّ، في أثناء بحثه في تعدّدية العلاقات ويستند في دراسته إلى ما قدّمه غريماس (Greimas) عندما درس أنموذج العلاقات بين الشخصياّت، ورأى تودوروف أن من الممكن إرجاع تعدّدية العلاقات إلى ثلاثة حوافز أساسيّة هي الرّغبة والتّواصل والمشاركة. وهذه الحوافز تؤدّي إلى التّقارب بين الشخصيّات، ويقابلها ثلاثة حوافز سلبيّة تؤدّي إلى التّنافر، هذه الحوافز هي الكراهيّة والجهر والإعاقة.
ليست الشّخصيّة القصصيّة واقعاً محسوساً يتوضح في المكان والزمان. وإنّما هي “مفهوم لساني تخييلي، وبالتّالي، هي ليست سوى مجموعة من الكلمات لا أكثر ولا أقل”(2). ولكي تفلت من طغيان النّزعة السّيكولوجيّة نظر على أنها علاقة، وذلك يعني إمكانيّة دمجها بمجموع العمل الأدبي، وبهذا تكون جزءاً من العلاقات التي يتكّون منها نظامه، كما يمكن تحليل هذه الشخصيّة بوصفها وحدة دلاليّة، قابلة للتّحليل والوصف، أي من حيث هي دال ومدلول، وليس بوصفها معطى له إمكانيّة الثّبات. وهي، أي الشخصيّة، تغاير المفردة اللغويّة التي يعرف معناها فوراً – إلا إذا كانت منزاحة عن المعنى المعجميّ عبر الإستخدام البلاغي ـ كصحيفة بيضاء، ومن ثم بالإنتقال إلى البناء المتدرّج لها.
- حميد لحمداني، بنية النص السردي، ص 37.
- حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص 213.
يمكننا القول إن القاص يقوم بتخيل عالم فنّي جديد، كما يقوم بتشكيله، في أثناء تقديم العمل. ويتمّ بناء هذا العالم المتخيّل وفاق وجهة نظر بصريّة وفكريّة وجماليّة، أي إن هناك واقعاً ينبني على أسس ثقافيّة وإقتصاديّة وإجتماعيّة وسياسيّة. هذه المكوّنات تساهم في تقديم رؤية ثقافيّة لدى القاص. وتنمو هذه الرؤية وتتطور وتتنامى وفاق جملة من الؤثّرات، فتنتج عملاً قصصيّاً يستند إلى وجهة نظر محدّدة يمكن تبنّيها. هذه الأخيرة، بدورها تشكّل موقفاً ثقافياً، وإيديولوجيا من العالم المحيط، بعلاقاته وصراعاته وتناقضاته كلّها.
إنّ رؤية الكاتب تخلق عالماً مزاحاً عن العالم الحقيقي الموضوعيّ، إلا أنّها تستند إليه وتفترق عنه، خالقة بهذا الإستناد والإفتراق “مسافة توتّر تكشف عمّا يريد الكاتب قوله. فإذا نحن أمام واقع فنّي متمايز مغاير. “ومن هنا نميّز رؤية القاص من الرّاوي على أساس أن الأخير يشكل أداة البثّ التي يطلقها الأوّل ويستعين بها لأداء عمليّة القصّ، من غير أن يمتزج بها” (1).
يقوم القاص بإطلاع المتلقي على مجريات الأحداث وتطوّرها، وتنامي الشخصيّات وفاق نظام محدّد، يعدّه الكاتب بعناية والقصّة التي هي خطاب الكاتب، على لسان الرّاوي الذي يقدّم القصّة، يقابلها المتلقّي الذي يتلقّى الحكي. “وفي إطار العلاقة بينهما ليست الأحداث المحكيّة هي التي تهمّنا، ولكن الذي يهمّ الباحث بحسب هذه الوجهة هو الطّريقة التي بواسطتها يجعلنا الرّاوي نتعرّف إلى تلك الأحداث “(2).
يتبدّى عالم القصّة من خلال دور القاص، عندما يقدّم الشخصيّات بسماتها وملامحها الفكريّة، وأبعادها الثّقافية، وكذلك بعلاقاتها بالشخصيّات الأخرى، وبما قد تحمل من تناقضات. فصوت القاص “هو الصّوت غير المسموع الذي يقوم بتفصيل مادّة الرّواية إلى المتلقي وربما يكون الشخص الموصوف مظهراً مخبراً داخل النّصّ، ممّن يتولّى مهمّة الإدلاء بكامل تفاصيل عالم الرواية” (3).
إن العالم الفنّي الذي ينشئه الكاتب المبدع يتلبّس لباساً واقعياً، ينهض على خلفيّة رؤيته الكامنة وراء النصّ القصصيّ. والرّؤية التي يقوم الكاتب بنقلها قد تكون ذات بعد خارجي، يقف القاص فيها موقف المحايد، خارج إطار الذّات المتأثّرة. وهو هنا “يستطيع أن يصل إلى كل المشاهد عبر جدران المنازل، كما أنه يستطيع أن يدرك ما يدور بخلد الأبطال” (4).
- Kaysar, Qui racote le Roman? In Poetique Du Recit, Paris, ED Sual-Point, 1977, Page 504
- Todorar, les Generes de discourses, Edit, Seuil, Paris, 1978, Page 133
- عبدالله إبراهيم، المتخيل السردي، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط 1، 1999، ص 117.
- Categories du Recit, Page 148, T.Todovov.
وإما أن تكون الرّؤية داخلية، بمعنى أن يأخذ القاص بيد المتلقي في رحلتهما المشتركة، يطلعان معاً على مجرى الأحداث وتسلسلها، وكذلك يقوم بمشاركة الكاتب في كيفيّة النّظر إلى الأحداث والتطوّرات “ونضفي إنطباعات الرّاوي ووجهة نظره على الأحداث والشخصيّات، والّرّاوي هنا أحد شخصيّات الرّواية، يقدّم ما يشاهد من أحداث، ويكون شاهداً عليها” (1).
تقود هذه الرؤية إلى تعدّد وجهات النّظر بتعدّد الشّخصيّات بإنسجام وتوافق، وتقوم أيضاً، بالكشف عن وجوه الصّراع، الخفيّ منه والمعلن ولعلّ هذه إحدى مميّزات القصّة الحديثة.
- عبدالله إبراهيم، المتخيل السردي، ص 119.
المبحث الأول : مجموعة أغلى من الذهب :
يقوم هذا المبحث بدراسة قصّتين هما : “الجذع”، “أغلى من الذهب”.
- دراسة قصة “الجذع” :
- إحصاء الشخصيّات وتصنيفها :
قامت هذه القصّة على شخصيّات متعدّدة، فالرّجل هو الشّخصية الرّئيسة التي يدور حولها مجرى القصّة، والزّوج الشخصيّة الأساسيّة التي رافقت الشخصيّة الرّئيسة بكل معاناتها وأما حارس السّهل والخواجة وناظر المحطّة والمدير فقد مثلوا الشخصيّات الثانويّة والطّفل شخصيّة خلفيّة.
- نظام العلاقات بين الشخصيّات:
- البرنامج السّردي الأوّل : البحث عن عمل.
- العامل الذات : الرّجل.
- العامل الموضوع : إيجاد بديل للعمل الذي خسره، عانت الشخصيّة الكثير في سبيل ذلك ويعود السبب لإبن سرسق الذي باع أرضه للعدو.
- العامل المرسل : يتمثل هذا العامل بجملة من العناصر التي تنطلق من الذّات، لإشباع رغبة أو رغبات متمكنة في حنايا النّفس. إن معاناة الشخصيّة تمثلت، بإيجاد معاش لها ولعائلتها ولتربية طفلها، وكذلك لتحقيق إنسانيّتها فهي تسعى جاهدة لإيجاد عمل يغنيها عن اليهود. فالشخصيّة تعيش بأمل وجود عمل، لأنّه لا بدّ من وجود شخصيّات يحبون وطنهم ويدافعون عن أرضهم ويحافظون عليها وبالتالي ستعمل عندهم. وهذا ما يدلّ على إحساس الشخصيّة بإنسانيّتها وكرامتها فتقول الشخصية :”إسمع أيها المتعلّم : (العبوديّة عبوديّة مهما رفعت من شعارات برّاقة) ،سنجوب أرجاء الوطن ولا بدّ أن تحظى بحقل ليس يملكه إبن سرسق” (1). فلقد إستعانت بهذا الأمل بوصفه النّقيض للواقع، لإنشاء مدينة مغايرة لما حولها، مدينة جديدة إنتهى منها الظلم والقمع، فنجد حرصها على العيش والبحث عن عمل بديل ،قد شكّل جانباً من الإحساس بالإنسانية، التي تجد سبيلها إلى التّحقق ذات يوم. وكذلك فإنّ الفقر، الذي يعيشه الرّجل، أي الشخصيّة الرّئيسة، كان عمالاً أساسيّاً للبحث عن عمل ،إذ أنّه لا يملك ما يمكن أن يعيل عائلته سوى العمل ،فجاب هو وعائلته أنحاء فلسطين غير يائس، بل متفائلاً من المستقبل.
- الجذع ،ص 24.
- العامل المرسل إليه : الذّات ، العائلة، الوطن.
إن العامل المرسل إليه يتّجه إلى الذات ،التي ترغب في تحويل الواقع المؤلم القائم على بيع الأراضي لليهود، ممّا يدفع الفلاحين إلى ترك العمل والبحث عن عمل جديد يغنيهم عن اليهود وأمثالهم وبالتّالي يستطيعون الإهتمام بعائلاتهم، فإنّ الّرّجل (الشخصية الرئيسة) سعى جاهداً للبحث عن عمل جديد يحفظ من خلاله كرامته وعائلته ووطنه وذاته ،ضمن إطار من القيم الأخلاقية، فقد ترك نفسه يجوب أرض فلسطين علّه يجد عملاً يضمن له كلّ هذه القيم ويحافظ عليها.
- العامل المساعد :
إن الإمكانيّة النفسيّة والعقليّة التي تحلّت بها الشخصيّة الرّئيسة ،أعطتها عزماً وقوّة لمواجهة الصّعاب التي واجهتها من أجل إيجاد عمل يساعدها على الإهتمام بعائلتها. فقد عانت الشخصيّة الكثير، إذ بدأت تتنقل هي وزوجها وطفلها على ظهر الحمار علها تجد طلبها، فتوقفت بجانب محطة السّكك الحديديّة، وغبّرت عن موقفها من الإنسان الذي ينازع أخاه الإنسان على لقمة العيش، بل يحرمه منها في أثناء حديث دار بينها وبين ناظر المحطة تقول الشخصيّة :”الرجل: “هل سمعت أن حماراً قتل حماراً أو سرق تعبه أو أغتابه أو إغتصبه ؟
– كلا.
فإن هذا الحوار الذي دار بينهما ليس مجرد حوار، بل هدفه إيصال فكرة ،وهي أنّ الإنسان لا يحترم أخاه بالإنسانيّة، بل يتعدّى على حقوقه ويحرمها منه، كيف إذا كان الإنسان من أبناء وطنه، فلقد باع نفسه وغيره بالإنسانيّة للعدو الغاصب وحرم أبناء وطنه من لقمة عيشهم.
وكذلك فإنّ الزّوج قد رافقت الشخصيّة الرّئيسة طوال هذه المعاناة، فكانت خير سند لزوجها وعانته على همومه ووقفت إلى جانبه حتّى يصل إلى مبتغاه إيجاد عمل بديل عن الذي خسره.
- العامل المناوئ :
إن الكاتب “سعيد أو نعسة” قد كشف عن جانب من جوانب الظّلم والإضطهاد التي يعاني منها الشّعب الفلسطيني فإنّ الرّجل (الشخصية الرّئيسة) عانت الكثير لإيجاد عمل بديل عن الذي خسرته ،كونه فلسطينياً ويعيش داخل أرض محتلة يسيطر عليها الإحتلال وقمعه وظلمه وهيمنته، وكون أن الشخصية الرّئيسة قد تميّزت بعقليّة وطنيّة لا ترضى بعمل يضر بأسسها وقيمها ووطنها، إذ أن ما تتمنّاه عمل بعيد عن اليهود وخدمتهم، فلقد تركت عملها الأول بسبب بيع الحقل ليهودي ،ولقد رفضت فرصة عمل أتيحت لها في القطار لسبب واحد وهو خدمتها لليهود.
ففضّلت أن تسير في دنيا الله تبحث عن عمل، لا تعرف وجهة سيرها، علّها تجد عملاً يناسبها فشرّدت هي وزوجها وطفلها في سبيل تأمين لقمة العيش في ضوء القمع والإذلال اللذين ذاق منهما الأمرين. ففرص العمل قليلة ووطنيّته وقيمه تمنعه من قبول أيّ عمل، وكونه فلسطينياًّ صعب الوضع أكثر.
- هوية الشّخصية الرّئيسة :
بثّ الكاتب جملة من سمات الشخصية الرئيسة، النفسية والجسدية والأخلاقية والثقافية والإجتماعية والوطنية في ثنايا القصّة ،ومن الضروريّ أن نتمعّن في الوظيفة التي تؤدّيها هذه الصّفات.
- الهوية النّفسية للشخصية الرّئيسة :
لقد إتّسمت نفسيّة الشخصيّة الرّئيسة في قصّة “الجذع” باليأس ،وظهر ذلك من بداية القصة، في أثناء تثاقلها إلى جذع (الحورة) حتّى نهاية القصّة. لقد تركت الشخصيّة الرّئيسة منزلها في سبيل بحثها عن عمل بديل عن الذي خسرته، ولقد ظهر بأسها في غير مكان فيقول : الشخصية الرئيسة كردّ على تساؤل الزّوج حول مكان ذهابهما :” ومن في الكون يدري أين يمضي ؟ سجن كبير مفتح الأبواب ! وهم أكبر إسمه (الحرية) أقنعة … أقنعة … باسم الدين إرتكبت أبشع مجازر التّاريخ.
وخلف قناعي الأخلاق والسّياسية تتأهّب وحوش ضارية (الوطنيّة حرباء يلوّنها البشر على أهوائهم). تأمّلي هؤلاء الغجر مثلاً، وطنهم خيمة وهدفهم لقمة، يعيشون على هامش الحياة (لا شعورياً يتحسّس بطاقة هويتّه، وينظر إلى طفله كأنّما يعقد مقارنة ) “(1).
من هنا نجد مدى يأس الشّخصية من الوضع الذي تعيشه وللحظة أحسّت نفسها، وكأنّ حالها كحال الغجر لا هوية ولا وطن، فإن تركها للعمل قلّت مجالاته في وطن سيطر عليه اليهود. جعل من الشخصية تعاني الظّلم والقهر.
- الهويّة الإجتماعيّة :
إنّ الشخصيّة الرّئيسة تعاني وضعاً إجتماعيّاً صعباً، فهي تمر بحال معيشية قاهرة، فلقد تركت بيتها في سبيل البحث عن لقمة العيش، وكذلك فإنّها بعيدة عن التّقدم الذي يدركه العالم اليوم، ونلحظ ذلك من جملة إشارات دلّت على الوضع الإجتماعي التي تعيشها الشخصيّة.
يقول الكاتب ” تناهى إليه زعيق زوجه. هل أسرجت الحمار” تحامل على صرّته وقام يزاوجها على صرّة أخرى تاركاً بينهما مسافة تتّسع لظهر الحمار”.
- ص 22.
حد قتهما الزّوجة من النّافذة، وإطمأنّت إلى سير الأمور. تناولت حذاءها، الصقت النّعل بالنعل وغيّبته تحت إبطها. ثم (اعتلت) رضيعها وسلّة المؤن وخرجت تجرّ أذيالها مجدّفة”(1).
ويدلّنا هذا على الوضع الإجتماعي الذي تعيشه الشخصيّة، إنّها تعاني الفقر الشديد.
- الهويّة الأخلاقيّة :
نلحظ جملة من القيم الأخلاقيّة التي تتشبّث بها الشخصية الرّئيسة كونها تنتمي إلى الأصول الرّيفيّة هذه القيم تتبدّى من خلال تعاطيها مع الشخصيّات الأخرى في القصّة ،فالوفاء والإخلاص من القيم الأخلاقيّة التي تتحلّى بها. تقول عندما سلّمت المفتاح لحارس السّهل الذي كان يعمل فيه “رجع الرّجل القهقريّ، وسلّم المفتاح إلى حارس السهل، طالباً أن ينقل (للخواجة) هذه الرّسالة :
“بعت آخرتك بدنياك، وبعت دنياك بذميم الصّيت، الا بئس البيع !!
ثم تناول قبضة من الطين وجعل يكوّرها بين كفيه .. أسكنها (الجرح) وهو يردّد : (الطين سلاح عند عدم السّلاح)” (2).
فقد بينت لنا الشخصيّة مدى إخلاصها لأرضها وشهامتها تجاه المواقف الحاسمة، ولعلّ هذا اللوم لإبن سرسق يكشف عن أخلاق نبيلة وشهامة، لأنها ترفض كل من يبيع أرضه ليهودي الذي ذاقت منه الأمرين.
ويظهر لنا الوفاء والإخلاص أيضاً عندما رفضت فكرة مجرد حمل متاع يهودي فيقول الشخصية : إسمع أيّها المتعلم ( العبوديّة عبوديّة مهما رفعت من شعارات برّاقة )، سنجوب أرجاء الوطن، ولا بدّ من أن نحظى بحقل ليس يملكه إبن سرسق” (3).
هنا يكشف الكاتب عن نظرة الشخصيّة الرّئيسة إلى العبوديّة فهو يرفض رفضاً قاطعاً أن يخدم يهودياً ،حتى ولو كان على حساب لقمة العيش، فإيمانه بوطنه وبفرضه وبأرض وطنه جعله يعيش على الأمل ،وشهامته المتوارتة التي هي جزء من عاداتنا وتعاليدنا الشّرقيّة ظاهرة متجليّة في تصرّفاته.
- ص 19-20
- ص 20-21
- ص 22.
د. الهويّة الثقافيّة :
لم تمتلك الشخصيّة الرّئيسة مستوى علمياً يميّزها من النّاحية الثقافيّة. فهي مقاومة، عنيدة، بالدّرجة الأولى. وهي مقاومة تؤمن بالحرب وحتى لو كان السّلاح قبضة من الطّين ،لأنها تجده الوسيلة الوحيدة لاسترجاع الحقوق التي إغتصبها العدو. تقول : “الطّين سلاح عند عدم السّلاح” (1).
فهي تؤمن بضرورة المبادرة إلى النّضال بما يتوافر من إمكانات، من أجل التخلّص من سيطرة الإحتلال وظلمه الذي يقف بينه وبين لقمة عيشه.
فهي إنسانة ذكيّة، مستوعبة للواقع، وللشعارات التي تطلقها الدّول. فتقول : “سجن كبير مفتح الأبواب !! ووهم أكبر إسمه (الحرية) … أقنعة … أقنعة. باسم الدّين إرتكبت أبشع مجازر التّاريخ وخلف قناعيّ الأخلاق والسّياسة تتأهّب وحوش ضارية (الوطنيّة حرباء يلوّنها البشر على أهوائهم)” (2).
فهي تعيش الواقع وتستطيع قراءة ما بين السّطور وما يدور من حولنا من قرارات حاسمة، وجدت فقط لأنّها وجدت.
- آلية الصراع وتحقق الذات :
تحدّد آلية الصّراع في قصّة “الجذع” من خلال المحبة والإنتماء الوطني الذي تبيّن عند الشخصيّة، فإن تركها لعملها في بادئ القصّة، يعود سبب لهذا الإنماء وهذا الإخلاص، وقد سعت طوال القصة، لتبحث عن عمل بديل يكون في حقل لا يملكه يهودي ولكن لم تجد الشخصية عملاً بديلاً إلا في سكّة الحديد تعمل كعتال ولكن هذا العمل يصبّ أيضاً في خدمة اليهود، ممّا جعل الشخصيّة ترفضه رفضاً قاطعاً ،بالرّغم من الوضع الإجتماعي الذي تعاني منه، فإنتماؤها ووفاؤها للوطن وقف عائقاً أمام تحقّق ذاتها وهو إيجاد عمل تبقى فيه كرامتها.
ويعني كل ذلك أن آليّة الصّراع التي حكمت القصّة هي ذات بُعد وطني أخلاقي.
- ص 21.
- ص 21.
القصّة الثانية : “أغلى من الذّهب” :
- دراسة قصّة “أغلى من الذهب”
- إحصاء الشخصيّات وتصنيفها :
تمحورت هذه القصّة حول أستاذ وهو الشّخصية الرّئيسة، والزّوج فاطمة شخصية أساسية وأما الشخصيّات الثّانوية فهي : ( التّاجر والشبان المقاتلون والعجائز وأخيراً النّساء ،وإن هذه الشخصيات تداخلت مع بعضها البعض إلّا أن الشخصية الرّئيسة هي المحور بمساعدة زوجه (فاطمة) ومكتملة مع الشخصيّات الثّانوية.
- نظام العلاقات بين الشخصيات :
- البرنامج السردي الأول : الحصول على السلاح.
- العامل الذات : الأستاذ الذي تتمحور حوله القصة.
- العامل الموضوع :
إن الشخصية الرئيسة في “أغلى من الذهب” همّها الوحيد الحصول على سلاح لمشاركة رجال الضّيعة بالواجب وكذلك لتحقيق ذاته ورجولته.
فمع مزاولته مهنة التعليم إلا أنّ نداء الواجب لم يمنعه من التفكير بوطنه وأرضه، وهكذا فإن أحداث القصّة تمحورت حول كيفيّة حصول الأستاذ على سلاح في ظلّ الفقر والوضع المعيشيّ الصّعب.
- العامل المرسل : حبّ الوطن وكرامته ورجولته.
إن الدّافع الأساسي الذي تميّز به هذا العامل هو محبّة الشخصية الرّئيسة لوطنها وحفظ أرضها وكرامتها ،وكذلك إحساسه برجولته فهو رجل كباقي الرّجال لديهم رغبة في إشباع رجولتهم، فهو كهؤلاء الذين يواجهون العدو، وجلوسه في المنزل يشعره بالحرج وكأنّه كالنساء القابعة في منزلها تنقّي العدس.
تقول الشخصيّة الرّئيسة بحوار دار بينها وبين زوجه : نم !! الصّباح رباح !!
ليته لا يأتي !! غداً .. يرى الخبر في القرية سريان النار في الهشيم. “الرجال يقتحمون لجّة المعركة، والأستاذ قابع مع النّساء ينقّي العدس تحت شمس الضّحى” (1).
- العامل المرسل إليه : المجتمع كلّه (أهل الوطن) :
إن الشخصية الرّئيسة لم تعد بإستطاعتها تحمل الوضع القائم آنذاك في الضّيعة وخصوصاً أن جميع الرّجال لبّوا نداء الواجب متوجّهين لقتال العدوّ بينما هو قابع في المنزل.
فإن ما يرتكبه العدو بحق شعبه من مظالم، جعله يسعى جاهداً للحصول على سلاح بشتّى الوسائل للدفاع عن أرضه وأهله ،إذ أنّ العدو سلب حقوقهم ولقمة عيشهم.
- العامل المساعد : التسول وقوف زوجه بجانبه :
لقد تملّكت الشّخصية مشاعر وأحاسيس أليمة من جرّاء عدم وجود سلاح يساعده على الدفاع والحضور مع باقي المجاهدين الموجودين في لجّة المعركة ،ومن جّراء ذلك راح يفكّر بوسائل عديدة لتفرج همّه ومن بين هذه الوسائل : التّسول وبعد تفكير عميق ،قرّرت الشخصيّة أن تتسوّل إذ أنه لم يجد طريقة أخرى تجلب له المال لشراء سلاح، وفي الصّباح الباكر ما لبث أفرجت عليه. عندما وجد زوجه قد باعت ذهبها واشترت بندقيّة له يقاتل بها العدو ،وتبعد عنه تلك الوساوس والأحاسيس الجارحة التي أحسّت بها الشّخصية.
فيقول الكاتب ” ألفى لدى الباب، تشرع ذراعيها تأهباً لعناقه وقد رفعت بندقية.
ذهل … !! وتساقط إلى الأرض !! من أين يا فاطمة !
قالت: “نحن والذّهب أبناء التّراب … والتّراب بحاجة إلى من سلّمته البندقية مودّعة : “بل إلى المسجد تعود، ولن تنقّي العدس مع النّساء” (2).
وهكذا فإن إمرأة الأستاذ (الشخصية الرئيسة) قد ساعدت زوجها وهي نموذج من النّساء الفلسطينيّات اللواتي يبعن ما عندهن فداء للوطن وترابه.
- ص 68
- ص 68-69
- العامل المناوئ :
إننا نجد أن غير عامل شكّل إحباطاً وقلقا للشخصيّة، ومنعها من تحقيق هدفها، ومن هذه العوامل :
- الفقر وعدم وجود السّلاح :
ليس الكاتب “سعيد أبو نعسة” بحاجة إلى إكتشاف فقر الفقراء في ظلّ الإحتلال، وقد بثّ إشارات متعدّدة إلى معاناة الفلسطينيين القاسية، نتيجة للإحتلال وقمع العدو.
نقرأ ما قالته الشّخصيّة : “لكن العين بصيرة واليد قصيرة حتّى البيض والدّيوك التي كنت أتقاضاها لقاء تعليم أطفال القرية بدأت تنضب ؟
نقّل نظرات ذابلة حول متاعه فلم يجد بينها ما يصلح للبيع وغاب تحت اللحاف حين تقلّص القنديل معلناً عطشه إلى الزّيت “(1).
هذا باختصار يسلّط الضّوء على الوضع المعيشيّ والفقر الذي تعاني منه الشخصيّة، فكيف ستحصل على سلاح في ظلّ هذا الوضع الصّعب ،وكيف ستقاوم العدوّ من دون سلاح. فعاشت الشّخصيّة صراعاً مؤلماً آملة إيجاد حلّ يخرجها من همّها وألمها.
فقد حرمت من مقوّمات الحياة التي يعرفها عصرنا اليوم.
- البرنامج السّردي الثاني :
إن البرنامج السّردي الثاني يكمل البرنامج السّردي الأول وهو ممارسة الجهاد لمقاومة العدو الغاصب ،لقد سعت الشخصيّة جاهدة وفكّرت بشتّى الطّرق من أجل تحقيق هذا الواجب.
- العامل المرسل : وطن محتل- شعور بالوطنّية- الرّجولة :
إن تحرير الوطن وأبائه متوقّف على رجاله ومقاوميه، ولذلك فإنّ الشخصيّة أحسّت بهذا الواجب وأحبّت تلبية ندائه ولكن الوسيلة (السلاح) لم تكن موجودة، ففكّرت بوسائل عديدة تستطيع من خلاله تحقيق هدفها وبالتّالي تلبّي نداء الوطن.
وغير مثال على ذلك عندما عرفت أن الرّجال في لجّة المعركة ،بينما هي قابعة في المنزل كالنساء، فتعبّر عن ذلك بحرقة وألم وإنزعاج لعدم إستطاعتها عن الحضور معهم ،وقد عبّرت هذا القهر في أثناء محادثتها مع زوجها.
- ص 68
فتقول الشخصيّة : “ليته لا يأتي !!.. غداً يسري الخبر في القرية سريان النّار في الهشيم :”الرّجال يقتحمون لجّة المعركة، والأستاذ قابع بين النّساء ينقّي العدس تحت شمس الضّحى ويرفو الثّياب، ينهش لحم الجارات، ويشحذ لسانه ليزغرد للأبطال العائدين ،موتي يسبق يا فاطمة، موتي يسبق !!
وراحا يجهشان في نوبة البكاء”(1).
من طبيعة المرأة أن تبكي لأنها عاطفيّة ،ولكن الرّجل فإنه موصوف بالرّجولية والعقلانيّة ،وقلّة منهم يلجأ للبكاء وهذا ما حصل للشخصيّة ،فإنه لم يتحمل رؤية نفسه من دون سلاح ومع الرّجال، فلجأ إلى البكاء الذي يعبر عن الأشياء الصّعبة على الرّجال، وكلّ ذلك من أجل إحساسه بالمسؤولية تجاه وطنه وكرامته وعزّته.
- العامل المرسل إليه : الوطن
إن ما سعت إليه الشّخصيّة وما فكرّت به يصّب في صالح الوطن ومحبّتها له ،وقد عبّرت عن ذلك بطرق شتّى، وفكّرت بالمعقول واللامعقول في سبيل النّجاة من السنة النّساء ،وكذلك شراء بندقيّة تجعلها تثبت ذاتها ووطنيّتها ومحبّتها لأبناء وطنها وكذلك لتحرير أرض وطنها.
- العامل المساعد :
الحضور في الوطن وقوّته وإيمانه وعزمه ومحبته بوطنه، كلّ ذلك ساعد الشّخصية على تأدية دوراً لهم أساسيا” وجعلها جاهدة تفكّر في طريقة لتأدية هذا الدّور وهو مقاومة العدو وردعه.
وقد تجلّى ذلك في كلّ سطر من القصّة، إذ تبيّن لنا كيف كانت الشخصية صاحبة قوية وعزيمة.
- ص 66 .
- العامل المناوئ :
- قوّة العدو :
إن العدو الإسرائيلي معروف بقوّته وقوّة أسلحته وتطوّرها ولذلك كان لا بدّ من وجود أمثال الشخصيّة الموصوفة بالعزم والقدرة ومحبّة الوطن لمواجهة هذا العدوّ وهذه القوّة.
- هويّة الشخصية الرّئيسة : (الأستاذ).
إنّ الشخصية الرّئيسة (الأستاذ) قدّمها الكاتب بصورة واقعيّة في “أغلى من الذّهب”، وكذلك الشّخصيات الثانوية (التاجر، والزّوج، والرّجال، والنّساء)، فقد جعلها ذات هويّة متكاملة ،ساعدته على تأدية رؤيته إلى العالم من حوله وخصوصاً العالم الفلسطيني.
ويجب أن نتمعّن بجملة السّمات التي تميّزت بها الشخصيّة الرّئيسة :
- الهويّة النّفسية للشخصيّة الرّئيسة :
لقد أجاد الكاتب في إسباغ السّمات النّفسية على الشّخصية الرّئيسة، فهو رجل، أستاذ، تميز بكثرة التّفكير، ومواجهة الواقع وتحدّيه وهذا ما جعله يبحث عن وسيلة ليزيح المشكلات التّي يتعرّض لها، في تعامله مع النّاس والمجتمع الذي يعيش فيه.
فواجه واقعه خير مواجهة متحدّياً الصّعاب للوصول إلى المبتغى (الحصول على سلاح) كان ذا حساسيّة شديدة فهو لم يتحمّل رؤية النّساء والجارات يتحدّثن عنه وعن جلوسه في المنزل كالنساء… وكذلك فإنه يائس، حزين فكلّما فكّر بطريقة تمكّنه لجلب المال لشراء بندقية، إنغلقت بوجهه الأبواب. يقول الكاتب :”نقّل نظرات ذابلة حول متاعه فلم يجد بينها ما يصلح للبيع”.
“قادته خطاه إلى مضارب الغجر، فكر في الإستدانة … لكنه يعرف الجواب !!” (1).
فلقد كانت تصرّفات الشخصيّة تنطبق على ما ترى فيه نفسها من مميّزات ونلحظ أنّها تحظى بجرأة لا توصف، فهي تفكّر بالتّسول والعمل في إفراغ آبار الفضلات، وكلّ ذلك في سبيل تحرير الوطن ورفع رأس أبنائه عالياً وتحقيقاً لذاته ولشخصه كرجل.
- ص 69
- الهوية الإجتماعية :
يظهر الأستاذ، في قصّة “أغلى من الذّهب” فقيراً، متزوّجاً من إمرأة تدعى “فاطمة”، وهي التي تخفّف عنه معاناته إشترت له بندقية، لجعله يقاتل مع الرّجال في الساّحة ،فكانت الأساس في كشف همّه ورفع رأسه أمام أهل القرية تقول الشخصيّة : “ولكن العين بصيرة واليد قصيرة، حتّى البيض والدّيوك التي كنت أتقاضاها لقاء تعلّم أطفال القرية بدأت تنضب” (1).
هذا ما يدلّ على الفقر والحالة المعيشيّة الصّعبة التي تعيشها الشخصيّة فمع علمها ومهنتها كأستاذ، لا تستطيع أن تشتري بندقيّة، فما تقتاته من تعليمها للأطفال لا يكفيها قوت يومها.
- الهويّة الأخلاقيّة :
نلحظ من القيم الأخلاقيّة قد حملتها الشخصية الرئيسة، منها الوفاء، والشّجاعة وتحمّل المسؤوليّة وأهميّة الواجب ففي سبيل حماية الوطن ،ظهرت كلّ هذه القيم في الشخصيّة فوافاؤها لوطنها ومحبتها له وكذلك شعورها بتحمل جزء من المسؤولية من أجل تحرير الوطن، جعلها تفكر بشجاعة بالتسوّل من أجل الحصول على مال تستطيع من خلاله شراء بندقيّة تمكّنها من الذّهاب مع الشّباب والرّجال إلى لجّة المعركة والجهاد معهم في سبيل تحرير أرض الوطن.
تقول الشخصيّة:”التّسول يصبح فريضة في حال واحدة فقط : الحاجة إلى السلاح”(2) ،فهي تخفّف عن نفسها وقع التّفكير بهذا الموضوع لأنّها تعرف كلّ المعرفة معنى هذا التّصرف وتداعيّاته ولكن ربّما بهذه الكلمات تخفف ثقل ما ستفعله ،فيصبح الأمر أكثر سهولة وإستعاباً.
- الهوية الثقافية :
تمتلك الشخصيّة الرّئيسة مستوى علميّاً تميّزت به، وهو اتخاذ التّعليم مهنة، وهذ ما كان يميّزها من النّاحية الثقافيّة.
كانت تعلّم أطفال القرية لقاء إعطائها بعض البيض والدّيوك ،ومع ثقافتها ومستواها العلمي لم تستطع تحمّل بقاءها في المنزل دون قتال .تقول الشخصيّة: “العلم لا تحميه بندقيّة يطير مع رأس حامله” (3).
هذا ما يدلّ على مدى أهميّة المقاومة، لأن المتعلّم لن يدافع عن وطنه وعن نفسه بعلمه بل ببندقيّته، فالكلمة وحدها في عصرنا هذا، لم تعد تنفع، ولكنّها مع الّرّصاصة تصنع المعجزات.
- ص 68
- ص 68.
- ص 68.
4.آلية الصراح وتحقق الذات :
لقد عاشت الشخصية الرّئيسة صراعاً حول كيفيّة الحصول على سلاح من أجل مقاومة العدو ومشاركة رجال الضّيعة بالواجب ،ولكن ما لبث أن مرّت الشخصيّة بمراحل من القهر واليأس في سبيل تحقيق الغاية ،وهذه المراحل كادت أن تحقق ذاته ومبتغاه وإذ بها تغلق في وجهه كلّ الأبواب حتى فاجأته زوجه بالبندقية وحقّقت كل آماله وذاته.
وإذ بنا نجد أنّ الزّوج هي التي قامت بتحقّق ذات الشخصيّة ،بينما بالعكس فإنّ محاولاته باءت بالفشل وكانت معوّقاً على ذلك.من هنا نجدأن الية الصّراع مادّية والحصول على المال وعلى السّلاح أدّى الى تحقيق الذّات.
المبحث الثاني : مجموعة “حكايات للزّمن الآتي”
يقوم هذا المبحث بدراسة قصّتين هما: “الخروج الآخر” و “الزّمن الآتي”
- دراسة قصّة “الخروج الأخير” :
- إحصاء الشّخصيّات وتصنيفها :
إرتكز بناء الشّخصيّات في “الخروج الأخير” على الوضع الإجتماعي الذي يعيشه الفلسطينيّون الذين يعيشون في المخيّمات، ذلك الوضع المتّسم بالقهر والإذلال والفقر، ناهيك عمّا يفرضه هذا الوضع بشكل عام كاللّجوء وترك أرض الوطن وعدم القدرة على الدّفاع والمقاومة.
إنّ هذا الوضع الصّعب جسّده الكاتب “سعيد أبو نعسة” في قصّة “الخروج الأخير” وحرص على تقديم صورة واقعيّة عن الشخصيّة الرّئيسة التي تمثلت ب “ابو جهاد” كان جهاد الشخصيّة الأساسيّة أما الشخصيّات الثانويّة الأخرى (فأم جهاد، وربيع، وأبو ربيع، وأم ربيع (الجارة)) التي نجحت في خدمة رؤية الكاتب إلى العالم من حوله.
- نظام العلاقات بين الشخصيّات :
- البرنامج السّردي الأوّل : إعادة اللعبة لإبن الجيران.
- العامل الذّات : أبو جهاد الذي تتمحور حوله القصّة مع إبنه جهاد.
- العامل الموضوع :
إن القصّة تدور حول تأنيب أم جهاد لإبنها جهاد على أخذه لعبة لإبن الجيران ربيع دون علمه، أو طلب الإذن منه وهذا الوضع جعل من الشخصيّة الرّئيسة تعقد مقارنات سريعة بين ربيع وجهاد من ناحية والوضع المعيشيّ الصّعب الذي تعيشه العائلة العاجزة عن شراء هديّة صغيرة لولدها (سيّارة) ،خصوصاً أن ربيعاً صديق ابن الشخصيّة الرّئيسة يعيش حياة ميسورة، وهذا ما جعل الحسرة تزرع في نفوس عائلة أبي جهاد المحرومين من ضروريات الحياة المأكل والمشرب.
- العامل المرسل : لعدم تهمته بالسرقة.
يتمثل هذا العامل بعزّة النّفس، ورفض إهانة جهاد على فعلته، أخذ لعبة صديقه ربيع دون إذن منه ،وهذا ما جعل أم جهاد تؤنب ولدها على فعلته وتجعله يعيد اللعبة إلى صاحبها، فراح (جهاد يفكّر بطريقة لائقة وعذر مقبول يسوّغ من خلاله فعلته ويحفظ كرامته، وصداقته مع رفيقه (ربيع).
لأنّ صديقه (ربيع) ليس مجرّد صديق، فهو النّعمة بالنّسبة له. فكلّ ما لا يستطيع أن يجلبه أو أن يحصل عليه في منزله يجده عند صديقه فضلاً عن الحلويات التي لم يسمع بها.
فتقول الشخصيّة: “كان مجرّد التّفكير بغضب (ربيع) وقطع العلاقة معه يقضّان مضجع إبني جهاد، فذلك يعني زوال النّعمة، وحلول النّقمة وعودة اللاجئ الصّغير إلى اللعب بعلب السّردين الفارغة” (1) .إن معاناة الكاتب، جسّدها في هذه القصّة، ليضيء بعض جوانب الحياة الصّعبة التي يعيشها اللاجئ خصوصاً في أمكنة خارج المخيّم ،ما يجعل الفرد ينظر إلى أعلى من أنفه ومن مستواه المعيشيّ وهذا يتأثر به الصّغار قبل الكبار، وهنا نجد ندم الشخصيّة على فعلتها ساعة أخرجت عائلتها من مخيّم اللاجئين وأسكنتها بيتاً مأجوراً متواضعاً بين بيوت بعلبكيّة. ممّا جعل إبنها يأخذ لعبة لا يستطيع الحصول عليها وجلبها إلى المنزل دون إذن صاحبها.
- العامل المرسل إليه : الأم وجهاد والعائلة.
إن (أم جهاد) لم تقبل على نفسها كونها أما” ومسؤولة وتربية أطفالها تقع على عاتقها، ورؤية ولدها يسرق، جعلها تؤنب ولدها بشدّة وتفرض عليه إعادة ما أخذه لصاحبه قبل أن تخبر زوجها.
وهذا ما فعله جهاد، كان بالنسبة إليه خطأ فادحاً، فهو لم يدرك خطورة هذا الموقف، وعندما خرج من المنزل ليعيد اللعبة، بدأ يبحث في طيّات نفسه عن مخرجاً، وعذر يسوّغ ما فعله، لأنه بالنسبة إليه إذا خسر صديقه (ربيع) ستكون نهاية النّعمة. فصديقه ليس مجرد صديق عادي، فهو مصدر تلذّذ وتذوّق ما لم يستطع أن يحصل عليه في منزله.
وهكذا نجد أنّه مع هذا الوضع الذي يعيشه جهاد، لم يكن ذلك مسوغاً واضحاً وكافياً لوالدته لتسمح له أن يسرق اللعبة، فهي إمرأة ذات مبدأ وتحرص على أولادها وتربيتهم الصّالحة.
- ص 94
- العامل المساعد : صداقته غير المتكافئة لرفيقه ربيع
إن جهاد يعيش حياة بسيطة، محروم من بعض حقوقه البسيطة نتيجة عجز والديه عن تأدية وجلب متطلباته. خصوصاً أن بيت أبو جهاد قد سكنوا بجانب من هم أفضل منهم عيشة ومعيشة،وهذا ما جعل جهاد يجد هذا الفارق بينه وبين صديقه ويحس بالحرمان والنّقص، فمجرّد حضور مثل هؤلاء الجيران بجانبهم سيخلق هذا الشّعور عند كل أفراد العائلة، خصوصاً الصّغار.فإنّ ما يتشابهان به ربيع وجهاد هو السّن فقط، أما بالنسبة للشّكل الخارجي (جسديّاً) وكذلك الرّفاهية التي يعيشها ربيع تفوق بكثير عمّا يعيشه جهاد. من هنا نجد أن الصّداقة بينهما غير متكافئة، وهذا ما جعل جهاد يسرق صديقه، ولكن أخلاق والديه تساعده على السّلوك القويم.
- العامل المناوئ : الفقر وحبه للعبة :
إنّ ما فعله جهاد وسرقته اللعبة، مع محبته صديقه وهو مصدر النّعمة له ،ومجرّد خسارته يعني حلول النقمة.
يرجع للفقر والحرمان اللذين يعاني منهما جهاد فهو إبن لاجئ فلسطيني إضطر لترك وطنه والسّكن في وطن آخر (لبنان)، وكذلك عدم وجوده بين أقربائه، وأبناء وطنه في المخيّم جعل (جهاد) يشعر بهذا الفارق بينه وبين صديقه ،لأنّ ربيع هو إبن لرجل ميسور الحال، يعيش حياة مترفة، كلّ ما يطلبه ويتمنّاه يجده. أما جهاد فقد حرم من الضّروريات قبل الكماليّات، فهو بالنّهاية طفل يحبُّ اللعب والألعاب ولكن فقره جعله لا يفكر بالنتيجة، فأخذ اللعبة التي لطالما حلم بها.
يرسم مشهدا” من مشاهد الفقر فتقول :”ولم يغب عن بالي أن الواجب المقدّس الذي القي على عاتق جهاد يسهم في تذويب شحمه، فقد كان عليه أن يسري قبل السّادسة من كلّ صباح إلى المخيم، لإستلام حصّة عائلته من حليب الإعاشة، والعودة سريعاً إلى البيت، لتحضير فتّة الحليب ومن ثم ينطلق مع إخوته غلى مدرسة (الإنروا) داخل المخيم” (1).
عندما يعيش طفل حياة كهذه، وهو يحمل على عاتقه مسؤوليّة وهو في هذا العمر، فلا يمكن وصف حاله إلا بمثل الذين حرموا من مقومات الحياة التي عرفها عصرنا.
- ص 94-95
- البرنامج السردي الثاني : تحقيق وعد الأب لإبنه (يأتي له بسيارة حمراء)
- العامل الموضوع :
حرصت الشخصيّة الرّئيسة في “الخروج الأخير” على إلقاء الذّنب على نفسها وبأنّها سبب لما حصل مع إبنه جهاد.
فمجرّد خروجه من المخيّم، جعل عائلته يبنون علاقات مع الجيران ،ولكنَّ هؤلاء الجيران كانوا أحسن حالاً وعيشة، وهذا ما أشعر العائلة بطعم الفقر أكثر.
ومع ذلك فإن الشخصيّة ،لم تتحمّل رؤية طفلها متأثراً ومجروحاً فسرعان ما وعد إبنه بهديّة تسرُّ قلبه مقابل تفوّقه في دراسته، هذا ما جعل إبنه يطير فرحاً، فانكب على الدّرس وسهر الليالي ليس لطلب المعالي، بل لحلمه بسيّارة مثل التي سرقها.
تقول الشخصيّة الرّئيسة :”أتدري ما هي مكافأتك إذا تفوّقت في دراستك؟
-سيارة حمراء صغيرة تسير من تلقاء نفسها.
-تماماً كما تتمنى.
-وعد شرف.
-وعد شرف “(1).
وبالتّالي، فإنّ الشخصيّة الرّئيسة كانت عاجزة عن شراء هذه السّيارة لأنّ ثمنها يعادل نصف مصروف عائلتها في شهر رمضان، إلا أنّها كانت تبحث عن وسيلة تستطيع من خلالها تحقيق وعدها لإبنها.
- ص 98.
- العامل المرسل : أخلاقه وحبه إبنَه وحرصَه على سلوكه
إن إحساس الشخصيّة الرّئيسة ببعض المسؤوليّة ،وكذلك عدم قدرته على رؤية ولدها، مجروحاً، متألماً، ناهيك عن أخلاقها الحميدة التي تتحلّى بها، فمع الوضع المعيشي الصّعب وعدم قدرة الشخصيّة على شراء سيّارة لابنها، فإنها فكّرت ببيع الكتب التي تملكها وهي تعتبر من أثمن الأشياء التي تملكها، فهي كتب حملتها معها من النّاصرة. ولكن أخلاقها لا تسمح بأن تخلف وعد شرف قطعته على ولدها.
فتقول الشخصيّة الرّئيسة :”فهو يعلم مقدار تعلقي بكتب صفراء، حملتها في جملة ما حملت، يوم أخرجت من النّاصرة وأنني لا أغفو إلا بعد تصفّح أحدها، وأنها تسكن الخزانة مع ثيابنا” (1).
من هنا نرى أهميّة هذه الكتب بالنسبة للشخصيّة، ولكن ما تتحلّى به من محبّة وعطف لابنها جعلها تتخلّى عنها مقابل رضى ولدها وفرحته، وكذلك بطريقة غير مباشرة تزرع في ولدها كيفية التحلّي بأخلاق حسنة وأهميّة تحقيق الوعد.
- العامل المرسل إليه : جهاد والأب
تسعى الشخصيّة الرّئيسة “الأب” إلى تحقيق الوعد الذي قطعته على أنّها مقابل تفوّقه في دراسته، الذي إنكبّ بالمقابل على الّدرس والتّحصيل وسهر الليالي، مع معرفة الشخصية أن جهاداً لا يطلب المعالي، بقدر ما يحلم بالسّيارة، فإنه سيسعى جاهداً للحصول على هذه الهدية وبالتالي تحقيق الوعد.
فتقول الشخصيّة الرّئيسة :”كنت أتظاهر أمامه بالرّضى والفرح، لتحسن مستواه العلمي، وإعتكافه في البيت، بينما كنت- والحق أقول -أضرب أخماساً بأسداس حائراً في كيفيّة البرّ بوعدي” (2) .
إنّ الأب وجهاد يسعيان من أجل تحقيق هدف كلٍّ منهما ،فالأب يبحث عن طريقة ينفّذ من خلالها وعده لإبنه، وجهاد يدرس ويسهر من أجل الحصول على السّيّارة حلم حياته.
- ص 99.
- ص 99
- العامل المساعد : بيع الكتب
كما رأينا أنّ الشّخصيّة الرّئيسة تعيش حال حيرة، وتضاؤل الآمال في توفير ثمن الهدية، ولكن ما لبثت أن فكّرت ببيع الكتب لتنقذ نفسها ولتحقق وعدها الذي قطعته على جهاد.
قال الأب :”إقترب موعد الإمتحان، وتضاءلت آمالي في توفير ثمن اللعبة، فأسلمت أمري إلى الله مسترشداً بالقول : (من ساعة لساعة فرج، وبين السّاعتين فرج).
ومن هنا نجد أن الفرج، كان ببيع الكتب، وما لبث أن أنقذ أبو ربيع الموقف وجلب الهديّة لجهاد، شاكرين له على هذا المعروف.
- العامل المناوئ : الفقر وثمن السيارة باهظ
إن الشخصيّة الّرّئيسة في “الخروج الأخير”، بوصفها ذكراً فإنّ مسؤولية العائلة تقع على عاتقها وبالتالي يجب عليها تحقيق رغبات أفراد عائلتها، ولكن الحال الإجتماعية التي تعيشها، والفقر الذي تعاني منه جعلها عاجزة وغير قادرة على تحقيق كل ما يتمنونه، وإذ بها تقطع وعداً لإبنها بشراء لعبة سيارة لطالما حلم بإقتنائها، وهذه السّيّارة باهظة الثّمن وليس بمقدور الشخصيّة شراءها ،ولكن هذا الوعد جعلها تعيش بحيرة وقلق كلّما اقترب موعد تحقيق الوعد ،لأنّها لم تجد طريقة لشراءها إلاّ عن طريق بيع الكتب الغالية على قلبه.
فتقول الشّخصيّة الرّئيسة : “إلا أن السّيّارة موضوع الوعد إستدرجني للسؤال عن ثمنها، وأصبت بالذّهول إذ فوجئت بأنّ ثمنها يعادل مصروف عائلتي في شهر رمضان ولكن لا بدَّ ممّا ليس منه بدا” (1).
تكشف هذه السّطور عن رغبات النّفس المتوقّدة، فالأب يشعر بحرقة لعدم قدرته على شراء السّيّارة وفي نفس الوقت مرارة الوعد والوفاء به.
- ص 98.
ج. هويّة الشّخصية الرّئيسة : أبو جهاد
الهويّة النفسيّة : يائس
في “الخروج الأخير” نجد أن الشخصيّة الرّئيسة تمتلك جملة من السّمات النّفسية التي أجاد الكاتب إسباغها عليها. فالشخصيّة الّرّئيسة رجل محبّ لعائلته، يفتش عن راحتهم وإسعادهم. ولكن عدم قدرته المادية وفقره جعلاه يقف عاجزاً عن تحقيق ذلك.
ولذلك تظهر الشخصيّة يائسة، حزينة، تلوم نفسها لأنه اختار السّكن في مدينة بعلبك ،وهم بقوا في المخيّم لكانت حياتهم أسهل.
وهي تحرص على فرض سلطانها على زوجها، فتقول الشخصية “كانت زوجي محقّة في رأيّها القاضي بالبقاء في المخيّم أسوة بغيرنا من اللاجئين، إذ قالت: (اللي بيطلع من توبو بيعرى).
قلت لها حينذاك :”أكاد أختنق من المخيم، فالناصرة حماها الله عودتني سكني البيوت الحجرية”. ومع صوابية جوابها، لم أعترف بخطإي أمامها، ولم أتراجع عن قراري” (1).
إن كلام الشخصيّة يثبت حقيقة، يأسها فإن تصرّفاتها تنطبق على ما يرى فيه نفسها، ونلحظ أنّها تحظى بقدرة السّيطرة على بيتها ومواقفها.
الهويّة الإجتماعيّة : فقير ومتزوّج
لقد أشار الكاتب إلى غير جانب، الفقر الذي يعيشه الشخصيّة، من ناحية عدم قدرتها على شراء لعبة، وكذلك تأمين قوت يومها خصوصاً أنّها متزوجة من إمرأة تعيش لتربية أطفالها .
وعن هذه الجوانب تقول الشخصيّة الرّئيسة :”لم يغب عن بالي الواجب المقّدس الذي القي على عاتق جهاد سهم في تذويب شحمه.. وغالباً ما كان الضرع يجف، فيعود جهاد بخفي حنين، ولا تجد الأم مفرّاً من إبدال الحليب بالشاي فتصبح الوجبة، فتّة الشاي، فيصيح أخوة جهاد متبرّمين:” (رائحة خبزنا لا تشبه تلك المنبعثة من الأفران في بعلبك” فأتساءل : “كيف سيقاتل اليهود من يحلم برغيف” (2).
وتقول في جانب آخر: “أصبت بالذّهول إذ فوجئت بأنّ ثمنها يعادل نصف مصروف عائلتي في شهر رمضان” (3).هذه هي بعض الجوانب التي تظهر الوضع الإجتماعي الذي تعيشه الشخصية الرّئيسة وعائلتها.
- ص 95 – 96.
- ص 95.
- . ص 98
الهويّة الأخلاقيّة : صبور، حنون
نلحظ جملة من القيم الأخلاقيّة التي تتعلّق بالشخصيّة الرّئيسة ،هذه القيم تظهر وتتبدّى من خلال تعاطيها مع الشخصيّات الأخرى في القصّة. ونجد الصّبر والحنان من القيم الأخلاقيّة التي تتحلّى بها.
تقول الشخصيّة الرّئيسة :”أسرعت باسماً إلى جهاد … قبّله عابثاً بشعره الأشعث … فقلت له ” لا تتأخر في العودة إلى البيت “. وقبل أن ينقل اللعبة بخفّة ورشاقة، من وراء ظهره إلى صدره، حانت مني التفاتة إليها، فإذا هي حمراء قانية، يزيّنها زنبرك صغير. حاولت أن أبلع ريقي، فلم يجد فمي بغير الغصّة والأسى” (1) .ولعلّ هذه الغصّة وهذا الشّعور بالأسى يدرك على مدى تأثر الشّخصيّة بولدها ومحبّتها له، فهي حنون تاثرت بمشاعر إبنها.
الهويّة الثقافيّة : مثقّف
إن حمل الشخصيّة الرّئيسة للكتب من النّاصرة وجلبها إلى لبنان، أمر يدل ّعلى مدى ثقافة الشخصية الرّئيسة وحبّها للقراءة والمطالعة .تقول الشخصية الّرئيسة:” حملتها في جملة ما حملت، يوم أخرجت من النّاصرة، وأنّني لا أغفو إلا بعد تصفّح أحدها، وأنّها تسكن الحزانة مع ثيابنا “(2).
تتبدّى من خلال أهميّة هذه الكتب بالنسبة للشخصيّة فهي عنوان هدوءها ونومها وإستقرارها.
آليّة الصّراع وتحقيق الذّات :
لقد أدّت الشخصيّة الرّئيسة سمات وطنيّة، أخلاقيّة ونفسيّة، فإنّها تقاوم بصبر وعزيمة ،ذل المعيشة والفقر باحثة عن الرّسائل لراحة أولادها وزوجها، وكذلك لتحقيق الوعد الذي قطعته على إبنها وهو شراء سيّارة مقابل نجاحه، وهنا عاشت الشخصيّة صراعاً بين الوعد والوضع المعيشيّ، فكيف سنشتري هديّة لا نملك ثمنها، ففكرت ببيع كتب لا تقدّر بثمن، وذلك كلّه مقابل ألا تخلف بوعدها. وهنا كاد أن يكون الصّراع معوّقاً على تحقيق ذات الشّخصية لولا مساعدة الجيران فإنّهم جلبوا هديّة لجهاد ،وبذلك يكونوا قد حقّقوا وبطريقة غير مباشرة رغبة جهاد ورغبة الشخصية في آن معاً. وهنا نجد أنّ الالية ماديّة تجلت بشراء هدية .
- ص 96.
- ص 99.
ب – النموذج الثاني : قصة “الزمن الآتي”
- إحصاء الشخصيات وتضيفها
إرتكز بناء الشّخصيات في “الزّمن الآتي” على كابوس عانت منه الشخصيّة الرّئيسة، يعرّض حياة فلسطينيي الدّاخل، ولكن بشكل موحش وكأنّهم في غابة وحوش، ولقد جسّد الكاتب هذا الوضع وقد حرص على تقديم نموذج من الحياة التي يعيشها فلسطيني الخارج وحلمهم بالعودة ،وهذا الكابوس قام بتجسيده الشخصية الرّئيسة التي تمثّلت ب “الكاتب” وكذلك الشخصيات الأساسية (الزوج، الأولاد) التي رأتها في الكابوس فساعدوها على تجسيد الوضع إيضاً بالإضافة إلى الشخصيات الثانوية (ربّان السّفينة، الّرجل، الرّجال، الطّفل) التي أدت إلى خدمة رؤية الكاتب وتصوير الكابوس وكأنه حقيقة تمثل العالم من حوله.
- نظام العلاقات بين الشخصيات :
- البرنامج السّردي الأوّل : الحكم بالعودة إلى أرض الأجداد.
- العامل الذات : الكاتب الذي يحلم بالعودة إلى فلسطين.
- العامل الموضوع :
إن القصّة تدور حول كابوس شهدته الشخصيّة الرّئيسة في نومها ،جّراء تفكيرها بالعودة إلى أرض الأجداد ،ولكن ما رأته في الكابوس من مجازر ومشاهد مرعبة، جسّدت وضع فلسطينيي الدّاخل، جعلها تفكّر هي وزوجها (الحلم) في الوضع القائم ،فقرروا البقاء في أرض الوطن رغم كل المصائب والمجازر.
فلقد مرّت الشخصيّة الرّئيسة بكابوس مرعب ،وصفت من خلاله الوضع في حيفا، وكيف أن الشّعب يعيش حياة صعبة حتّى أصبحوا وحوشاً ،وكذلك الدّمار قد عمّ كل مكان، حتى الذّكريات فقد محاها ولا وجود لحجر على حجر.
- العامل المرسل : وطنيته
يتمثّل هذا العامل بجملة من العناصر إجتمعت جميعها في واحدة وهي الوطنيّة الموجودة في حنايا النّفس.
لقد عانى الكاتب أي الشخصية الرّئيسة الكثير من القهر ممّا جعله يغط في كابوس مرعب : جسّد فيه مدى محبّته وشوقه للعودة ومن المعروف أن الأحلام تفسّر وتظهر ما يجول في نفس الشّخص ،وهكذا فإنّ ما وصف الكاتب وما تكلّمت عليه الشخصية الرّئيسة خير دليل على ما يلوج في نفسها ،ولكن جسّدته في كابوسها، فوطنيّتها ومحبّتها لوطنها والشّوق الذي يعتليها مثّلته في الحلم ومن خلاله صوّرت الوضع في فلسطين الدّاخل رغم ذلك فإنّها قرّرت البقاء ومقاومة الوضع والصّعاب.
- العامل المرسل إليه : المجتمع الفلسطيني والشّوق لرؤية أرضهم ….
لقد إتّجه هذا العامل لتحقيق ما تصبوا إليه الشخصية الرّئيسة ،فإنّها شخصيّة تعاني مرارة البعد عن الوطن والشوق لرؤيته ورؤية شعبه ،وإنّ ما دلّ على ذلك الكابوس الذي رآه في نومه، فإنه جسّد حنايا نفسها وفسّر ما يلوج في خاطرها، من خوف من المستقبل (مستقبل الشعب الفلسيطني) ومن بطش الإحتلال ومن جنوده الذين يعاملون أبناء الشّعب الفلسطيني معاملة البهائم، وهذا ما جسّدته في الكابوس أيضاً رؤيتها لوحوش ذات أنياب صفراء. وخوماً من تشويه الإنسان الفلسطيني، وكلّ ذلك يصبّ في محبّتها للوطن ولمجتمعها الذي لطالما عانى الكثير، فإنّ الكابوس خير دليل على العودة.
- العامل المساعد : الحلم
إن ما تعاني منه الشخصية الرّئيسة من شوق وخوف في آن واحد معاً، جسّده الحلم ليبيّن ما تلوج فيه نفسها. فإنّ هذا الحلم ساعدها على إخراج مكنونات نفسها فكان نتيجة لتفكير معمّق لطالما أتعبها وشغل بالها، فلقد حقّق لها حلمها ورؤية وطنها وأرضها ولكن كما توقّعت أن يكون مدّمراً، مشوّهاً.
ولقد عبّرت عن ذلك بقولها : “لم أهتد إلى بيت جدي رغم أنّني أحتفظ بخريطة تفصيليّة للمكان، وبمفتاح عملاق للبيت وسند الملكية” (1).
فلقد تحدثّت الشخصيّة عن الوضع في داخل فلسطين أو ما سيصبح عليه في المستقبل وكذلك عبّرت عن حبّها بطريقة غير مباشرة ،وكذلك عن حقّها المسلوب. فكان الحلم مساعداً لها لتعبّر عن مكنونات نفسها وحقّها.
- ص 138
- العامل المناوئ : قوّة العدو
جرت أحداث القصّة أي الكابوس المرعب داخل فلسطين وفي مدينة حيفا. التي تخضع لسيطرة الإسرائيليين حالياً ولكن ما جرى في القصّة ساعة العودة، تقول الشخصيّة :”رباّن السّفينة المكتظّة يعلن، أن المدينة التي سيبتلعها ميناؤها الأن هي حيفا ويطلب إلى المسافرين الإستعداد للنزول، مهنئاً إياهم بسلامة الوصول، وبالعودة إلى أرض الأجداد، بعد نضال طويل وعذاب ثقيل” (1).
إنّ ما عبّر رغبة الشخصيّة هموم أثقلت ولطالما عانت منها وهي ساعة العودة إلى أرض الوطن. ولقد أظهر هذه القصّة أيضاً بعض النّماذج من السّيطرة الإسرائيلية وتأثيرها على الوطن وملامحه، فتقول :”فلا أرى أمامي إلا أبنية محطّمة، وأسواقاً مهشّمة، وظلالاً من السّواد، تتعاكس في طبقات الفضاء”.
لم نر في أثناء تجوالنا أثراً لبشر سوانا، ولم تخترقنا غير رائحة حيث مهترئة، وصور لتماثيل فاحمة، تشبه بني الإنسان” (2). فإن هذه السّطور تصوّر لنا الوضع وتظهر مدى قوّة العدوّ الغاصب وما إرتكبه من مجازر بحق الأبرياء.
فإنّ هذه القوّة جعلت الكثيرين يهاجرون أرض الوطن، كما فعلت الشخصيّة خوفاً على أطفالها ونفسها تاركة في حنايا النّفس غصّة عبّرت عنها من خلال كابوس.
- ص 136
- ص 136.
- هويّة الشّخصية الرّئيسة :
- الهويّة النفسيّة :
إن هذه القصّة وكلّ تفصيل فيها، يعبّر عن نفسيّة الكاتب أي الشخصيّة الرّئيسة البائسة، اليائسة من الوضع الذي تعيشه والهمّ الذي تحمله والخوف المتوقّع من المستقبل فعبّرت عن ذلك في كابوس مرعب، يقشعّر له البدن فبالرغم من تواجده وسط عائلته، إلا أنه يتشوّق للعودة واليأس يسيطر عليه.
فتقول الشخصيّة:”يؤنسني الكتاب، فأنهل بين السّطور مسافراً عبر الكلمات، خارج حدود اللحظة الرتيبة، مخترقاً الحجب ومسافات الزمن” (1).
وإن ما ورد في سياق الكابوس المرعب، كلّه يدل على مدى يأس الشخصية وحملها بكابوس بحد ذاته هو خير دليل على بؤسها.
الهويّة الأخلاقيّة :
نلحظ أن الشخصيّة الرّئيسة قد إمتازت بالهدوء وحبّها للسكون فإنّها من محبّي قراءة الكتب ومن الطّبيعي من يمتاز بهذه الصّفة، يحبّ الهدوء والسّكينة وكيف إذا كانت الشخصية من عشّاق الليل وأن حياتها الفعليّة تبدأ عند هبوط الظّلام، إن الجميع يكون قد دخلوا منازلهم وخف الضّجيج تقول الشخصيّة : “أعترف أنّني من عشاق الليل، وأن حياتي العمليّة تبدأ مع هبوط الظلام” (2).
الهويّة الثقافيّة : مثقّف
لقد أمتكلت الشخصيّة مستوى ثقافيّاً تميّّزت به من خلال قراءتها للكتب عند هبوط الظلام فترحل بين سطورها مخترقة المسافات والحدود. فتقول الشخصيّة :” يؤنسني الكتاب، فأرحل بين السّطور مسافراً عبر الكلمات خارج حدود اللحظة الرّتيبة مخترقاً الحجب، ومسافات الزّمان. تمدّدت فوق فراشي، ممسكاً بخيوط قصّة أهل الكهف” (3).
- ص 135
- ص 135
- ص 135
- آلية الصّراع وتحقيق الذات :
من المعروف أن آلية الصّراع وتحقيق الذّات مرتبطة بالعوامل التي تساهم في تحريك الصّراع بين حلم الشخصية الرّئيسة بالعودة إلى الوطن، وبين الوضع الفلسطيني الذي سيؤول إليه بعد خروج العدو وتحرير الوطن من جهة وبينها وبين قوّة العدوّ الموجودة على أرض الوطن ،ومن الصّعب أن تترك فلسطين لأنها إعتبرتها أرضها ووطنها.
فإنّه صراع مزدوج، إذا حقّقت الشخصيّة ذاتها من خلال العودة إلى أرض الوطن وهو مجرد حلم، فإن هذا الحلم تحول إلى كابوس ،لأنّ الشخصية لم تجد شيئاً لما كان عليه قبل الإحتلال، وإن ما تتمناه الشخصيّة في طيّات نفسها وحناياها، فإنه مجرّد حلم إذا تحقق سيصبح كابوساً، فإنها تعيش صراعاً نفسياً، تخوضه الذات فتتعمق معاناتها وأصبح معوقاً على تحقيق ذاتها وأحلامها ومن هنا تتجلى الية الصّراع بالحلم بالعودة والعودة تحقيق للذات .
خاتمة الفصل الثاني : نتائج وموازنة
هناك جملة من النّتائج التي يمكن الوصول إليها، في دراسة بناء الشخصيّات في قصّتين “سعيد أبو نعسة” هذه النتائج تسلّط الضّوء على رؤية الكاتب إلى دور الشخصيّات في إنجاح العمل القصصيّ.
تمثل الشخصيّات في المجموعة الأولى ل “سعيد أبو نعسة”، نموذجين اختلفا من الناّحية الثقافيّة ولكنّهما موجودان على أرض الوطن، يعانيان مرارة وقساوة العدوّ من النّاحية الإجتماعيّة، فكلاهما فقيران، همّهما تأمين ضروريات الحياة من مأكل وملجأ وسلاح لمحاربة العدوّ الغاصب.
أما في المجموعة الثانية “حكايات الزّمن الأتي” قدمت نموذجين من الشخصيّات تميّزت بثقافتها، يعيشان حياة طبيعيّة خارج أرض الوطن فهما لاجئان ،وعملت الشخصيّات على كشف الهموم التي حملتها، وعن التطلّعات التي إرتسمت في مخيّلة أفرادها. حاولت الشخصية الرئيسة في “الخروج الأخير” من تأمين الكماليات لأولادها، إلا أن الوضع الإجتماعي وقف عائقاً ،فاعترضت سبيل الشخصيّة على تحقيق حلم ولده لولا تدخّل الجيران. وفي القصة الثانية من المجموعة الثانية “الزّمن الاتي” كشفت الشخصيّة عن الهمّ المشترك بين جميع الشخصياّت في كلتي القصّتين وهو العودة إلى أرض الوطن ولعلّ عدم النّجاح يعود إلى عجز متّسم بالمأساوية، وظهر ذلك من خلال حلمها بكابوس مرعب وصف حال الفلسطينيّ، وما آلت إليه الأرض من دمار وخراب”، ويقوم المأسوي في هذا الوضع على أن الرغبة، حتى تستجيب لهذا المنطق الخصوصي، لا تكفي لذلك السّبب عن أن تكون رغبة: أي عن التسبّب في محنة لا يعرف إرواءها” (1). فقد طرحت هذه القصص أزمة جيل بأكمله، ومعاناة شعب من أبناء فلسطين الذين رغبوا في التّحرر من نير الإحتلال، ولطالما حلموا أن يعيشوا على أرض وطنهم، فمنهم من سعى للحصول على سلاح للنضال بكلّ قواهم بوجه العدو، ومنهم من حلم بالعودة ومنهم من طلب عيشة كريمة، ميسورة على أرض تخدم شعبه ووطنه ومنهم من طلب لعبة فهل تستسطيعوا الوصول إلى الغايات المنشودة، فهل هذا هو الفداء الذي قصد إليه الكاتب.؟ أم أنها أزمة جيل يبحث عن موطئ قدم في ظل إختلال القوى، لصالح الدّولة العبريةّ التي تستهين بكلّ شيء، من أجل المحافظة على جودها غير الشرعيّ، على تراب ليس لها علاقة به.وهناك دور في اوجه بناء الشصيّة النسويّة في المجموعتين “أغلى من الذهب”و ” حكايات الزّمن الاتي” ، وفي هذا البناء تجد المرأة القويّة التي سعت جاهدة في سبيل إسعاد زوجها والوقوف الى جانبه في المصاعب ، وكذلك مساعدته لتحقيق ذاته ، ونجدها طرحت جانباً مشاعرها العاطفيّة التي حاولت تحييدها في ساحة الصّراع ، وقد ظهر ذلك جليّاً خصوصاً ،خصوصاً في المجموعة الاولى “أغلى من الذهب” .
- ستيفان تودوروف ، مفهوم الادب، ص 56.
ومهما يكن من أمر ،فإنّ الكاتب ” سعيد أبو نعسة” قد قدّم نموذجين جديدين للقصّة العربيّة ، وعرف كيف يفيد من ثقافته ومعاناته ، وذلك بتقديم شخصيّات متعدّدة الاتجاهات والمواقع والمطالب وكلّها محقّة وجليّة ، واستطاع من خلالها أن يرصد أزمة الشّعب الفلسطينيّ الموجود داخل الوطن و خارجه، بشجاعة و جرأة، بوجوهها السّياسيّة والاجتماعيّة ، والثّقافيّة والنّفسيّة وغيرها .واستطاعت الشّخصيّة الرّئيسة في كلّ قصّة أن تحمل رؤية الكاتب الى ما حوله ، وهذا يدلّ على مقدرة الكاتب الفنيّة ، تلك الموهبة الّتي لم تتيسّر الّا للقلائل من الكتّاب العرب للقصص. وتستطيع أن تصف أن المجموعتين بأنّها حديثة ،”وذلك لأنّها تقدّم العالم وكأنّه ميدان خبرة لتجاربنا ،من غير أن نمارس فيه تجربتنا بالفعل .وإنها لتكون كذلك في اتجاهاتها المختلفة .”(2)
- منذر عيّاشي ، الرواية والعقلانيّة ، ص 31.