بعد دراسة المكان في العدد السابق،تمّ دراسة الفضاء الزماني في هذا العدد،للإضاءة على العنصر الثاني من عناصر البنية السردية في رواية “حكاية بحار” للكاتب “حنا مينا”.
د. هويدا شريف
مدخل نظري إلى دراسة الزمن:
تطرقنا في مقدمة هذه الدراسة إلى حديث موجز عن الزمن، وكان أبرز ما ذكرناه أن العنصر الزّمني قد استحوذ على الاهتمام الأكبر من قبل النقاذ، إذ ما قورن ذلك باهتمامهم بالعنصر المكاني. ورأينا أيضاً أن العلاقة بين الزمان والمكان بما تحمل من تلازم وترابط هي من أكثر العلاقات وضوحاً في النص السردي. ويرى أحد الباحثين أن تقنية الزمن هي من أدق التقنيات التي تؤثر مباشرة في البنية العامة للرواية وهي التي تحكم الأزمنة المتغيرة في نطاق رؤية الراوي العامة، وبها تتمكن الرواية من الاستجابة لهذه الرؤية في نهاية الأمر([1])..
وتعزو سيزا قاسم أسباب اهتمامها إلى تحليل الزمن إلى ” أن الزمن عنصر محوري وعليه تترتب عناصر التشويق والإيقاع والاستمرار، وإلى أنه يمثل إلى حدٍّ بعيد طبيعة الرواية وشكلها، ونرى الباحثة أيضاً أنه ليس للزمن وجود مستقل نستطيع أن نستخرجه من النص كالشخصية أو الأشياق الموجودة في المكان، فالزمن يتخلل الرواية كلها، ولا نستطيع أن ندرسه دراسة تجزئية فهو الهيكل الذي تشيّدُ فوقه الرواية([2])..
([1]) عبد الحميد المحادين، التقنيات السردية في روايات عبد الرحمن منيف، منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ط1 عـ 1999، ص 61
(2]) سيزا قاسم، بناء الرواية – مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ، ص 26 – 27
ويبلور رولان بارت رؤيته الخاصة للزمن السردي مستفيداً في ذلك حسب ما يرى حسن بحراوي من الشعرية اليونانية التي اعطت الأولوية لما هو منطقي على ما هو زمني([3])، إذ يعلن بارت في كتابه “الكتابة في درجة الصفر” أن الفعل الماضي المشتق من الفرنسية الدارجة وحجر الزاوية في السرد، لم تعد مهمته التعبير عن الزمن، بل غدا دوره إيصال الحقيقة إلى نقطة ما، وأن يجتث التجربة الوجودية من جذورها، ويتوجه نحو رابطة منطقية مع أحداث أخرى وقضايا أخرى ليؤلف حركة العالم العامة، أي أن هدفه هو الابقاء على التراتبية المنطقية([4])..
ويشير حسن بحراوي أن بارت يعود إلى تأكيد هذا الموقف فيما بعد في آرائه اللاحقة وذلك جليٌّ فيما يعرضه بارت في كتابه: ” مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص” إذ يؤكد أن الزمنية ما هي إلا طبقة بنيوية من طبقات لخطاب وأنّ ما نسميه الزمن في القصّة لا يوجد إلا وظيفياً في نظام دلالي، فالزمن لا ينتمي إلى الخطاب بكل ما للكلمة من معنى ولكن إلى المرجع([5])..
ويرى تودوروف أن قضية الزمن تطرح بسبب وجود زمنيتين تقوم بينهما علاقات معنية، زمنية العالم المقدّم وزمنية الخطاب المقدّم له، ويرى أن هذا الاختلاف بين نظام الأحداث ونظام الكلام بديهي، ولكنه لم ينل حظه كاملاً من النظرية الأدبية إلا عندما اعتمده الشكلانيون الروس قرينة من القرائن الأساسية لإقامة تعارض بين المتن ” نظام الأحداث” والمبنى ” نظام الخطاب([6])..
([3]) حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص111
([4]) رولان بارت، الكتابة في درجة الصفر، ترجمة محمد نديم خشفة، منشورات مركز الانماء الحضاري، ط1، 2002، ص 40.
([5]) رولان بارت، مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص، ترجمة منذر كياني، منشورات مركز الانماء الحضاري، ط1، 1993، ص 54.
([6]) تزقتيان تودوروف، الشعرية..، ص 47.
وجدير بالذكر أن هناك تعدداً في المظاهر الزمنية داخل النص الواحد، وقد تعثر البقاء طويلاً قبل أن يصلوا إلى تجاوز خلافهم حول هذه النقطة ويختصروا تلك التعددية في ثنائية محددة سهلت عليهم البحث في الزمن السردي في الرواية([7])..
ولعل أبرز المقاربات التي تحدثت عن تعددية الأزمنة في الرواية هي مقاربة ميشيل بوتور الذي رأى أن هناك ثلاثية أزمنة على الأقل ضمن العمل الروائي هي زمن المغامرة أي زمن الحقيقي للأحداث وزمن الكتابة أي الزمن الذي يستغرقه الكاتب لإنجاز الرواية وزمن القراءة أي الزمن الذي تنجز فيه قراءة الرواية ويرى بوتور أن زمن الكتابة ينعكس على زمن المغامرة بوساطة الكاتب([8])..
أما التقابل بين زمن القصة وزمن السرد أو الخطاب الذي أرسى قواعده الشكلانيون الروس عندما ميزوا بين المتن والمبني الحكائيين فيعود ليصبح التقابل الأساسي الذي اعتمده النقاد فيما بعد لدراسة الزمن السردي حسب ما أسلفناه، فهذا جان ريكاردو يميز في كتاب “قضايا الرواية الجديدة” بين زمن السرد وزمن القصة ويجعلهما في محورين متوازيين ثم يعرض أنواع العلاقات التي تنشأ بين المحورين([9]).. وهذا تودوروف يميز بين زمن الخطاب “زمن السرد عند ريكاردو” وزمن التخيّل “زمن القصة عند ريكاردو” ويرى أن هناك ثلاثية أشكال من العلاقات تربط بين زمني الخطاب أحادية بينما زمنية التخيل متعددة، ويدرس المفارقات الزمنية، والعلاقة الثانية هي علاقة المدّة ويدرس فيها الحالات الزمنية الممكنة في السرد، وأخيراً علاقة التواتر التي تتناول
([7]) حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص114
([8]) ميشيل بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة: فريد انطونيوس، منشورات عويدات، بيروت، ط1، 1971، ص101
([9]) جان ريكاردو، قضايا الرواية الحديثة، ترجمة: صياح الجهيم، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، ط1، 1977، ص249.
حالات التكرار الممكنة([10]).. ويتحدث جيرار جينيت في كتاب “خطاب الحكاية” عن الثنائية الزمنية المتمثلة في زمن القصة وزمن الحكاية الذي يدعوه جينيت بالزمن الكاذب أو الزائف، لأنه يقوم مقام زمن حقيقي ثم يدرس العلاقات، ويجعلها في ثلاثة أشكال سبق أن ذكرناها عند تودوروف وهي علاقات الترتيب الزمني التي يتحدث فيها عن المفارقات الزمنية ويحدد أنواعها بدقة وعناية، ثم يتناول العلاقات بين المدة التي تستغرقها الأحداث في القصّة والمدّة التي تستغرقها الأحداث في الحكاية، ثم يدرس أخيراً علاقات التواتر مبيناً أنواعه وحالاته”([11])..
ويرى سعيد يقطين أن كتاب جيرار جينيت “خطاب الحكاية” افتتح مرحلة متطورة في تحليل الخطاب الروائي من الزواية التي دشنها الشكلانيون الروس وطورها من سار في اتجاههم من الباحثين([12])، ويرى أيضاً أن أعمال جينيت كانت مركز استلهام بالنسبة إلى العديد من الباحثين الذين اعتمدوا بصورة عن الزمن السردي وحاولوا تطبيقه على نصوص مختلفة([13])..
ولا بد من التنويه إلى أن اعتمادنا الأساسي في بحث الزمن سيعتمد على ما أرساه جيرار جينيت في كتاب “خطاب الحكاية” من مقولات زمنية تتعلق بعلاقات الترتيب والديمومة والتواتر مع الأخذ بآراء غيره من الباحثين إذ دعت الحاجة.
1- أدبية الزمن في حكاية بحّار
(1) علاقات الترتيب:
([10]) تزفيتان تودوروف، الشعرية، ص 48 – 49 – 50
([11]) جيرار جنيت، خطاب الحكاية، ص 46 – 47.
([12]) سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت – دار البيضاء، ط1، 1989، ص 76.
([13]) م.ن. ص 81
هذه التقنيات السردية يتشكل على أساسها الزمن القصصي الذي يغاير زمن الأحداث، بانزياحه ضمن السرد وهذه التقنيات هي:
تقنية الاسترجاع:
ابتدأ حنا مينا رواية حكاية بحّار، باستعادة ما سبق أن حدث في الماضي، ومن يقرأ الرواية يجد أن معظمها استرجاع أحداث من الماضي من بداية القصة حتى نهايتها. تقول الشخصية الرئيسة: ” كان سعيد حزوم يستلقي على الرمل الحار.. كان يفتح عينيه ويغمضهما، ويشد بجسمه على الرمل كما لو أنه يود أن يغوص فيه. وقد قال في نفسه: ” وداعاً أيها البحر” قال أيضاً: ” عليّ أن أودعه كبحار”([14])..
لقد استرجعت الشخصية ما حصل معها، أثناء وجودها على الرمل مستلقية، مودعة البحر. وكذلك عادت الذاكرة بالشخصية الرئيسة إلى الوراء، لتسترجع جوانب ما كان يقوله والدها، عن البحر وحياة البحارة. تقول الشخصية الرئيسة: ” وقلت لأبي: هل رأيت بحاراً كلّمه البحر؟” قال: لا، وإنما سمعت ذلك من أشياخنا البحارة تناقلوه أباً عن جد، وعرفوه بالتجربة، وتمنوه كليلة القدر، ودقوا صدورهم العارية في ابتهالات لا تنتهي كي يحدث ذلك لهم فلم يحدث، لكنهم في ليالي السفر الطويلة يحلمون بأن البحر جاءهم.. في صورة شيخ، بشعر أزرق، ولحية بيضاء، وعيون من فيروز…” ([15])
يتضمن هذا الاسترجاع نتيجة واضحة تفضي إلى أن البحر قد شكل شيئاً لهما في حياة سعيد وأبيه صالح وكل البحارة، فحاولوا تشخيصه بشتى الطرق وكأنه إنسان يبادلهم المشاعر ذاتها والحب نفسه والوفاء الأبدي، ونرى ذلك في هذا الاسترجاع أيضاً، فإن سعيداً يسأل والده أيضاً عن كيفية نيل رضا البحر، وهذا
([14]) حنا مينا، حكاية بحار، ص1
([15]) م. ن. ص 351
دليل على استعباده والعياذ بالله، أو وكأنه والديه ويرجو رضاهما. تقول الشخصية الرئيسة: ” قال والدي: ربما حصل ذلك ولكن للبحر معياراً غير معيار البشر، وحكمة لا ندركها نحن” قلت: وكم من السنين على البحّار أن يقضي في البحر حتى يبلغ رضاه؟ قال: هذا لا يتوقف على العمر بل على العمل”([16]).. هذه الاسترجاعات المذكورة وغيرها الكثير قد انتشرت في حنايا الرواية دلالة اجتماعية نفسية وجودية، أوحت لها الإشارة إلى معرفة أن البحر قد مثل الحياة بالنسبة إلى البحارة، وما يرجونه من هذه الحياة هو الرضا والمحبة والوفاء.
وهذا ما كان يريد إيصاله مينا في حنايا هذه القصة وقد أدت هذه الاسترجاعات داخلياً كانت أم خارجياً إلى إيصال خدمة نظرة الكاتب والشخصية معاً.
ب- تقنية الاستباق:
لقد ذكر الروائي أحداثاً في سياق هذه الرواية، قد خالف زمن السرد وتجاوز الحاضر، ومنها عندما كان سعيد يبحث عن والده في أعماق البحر، فتمثل نفسه في تلك اللحظة أنه سيغدو وحيداً، وسيفارقه تقول الشخصية الرئيسة: “لو لم أجده لعشت ولو أملاً كاذباً. الآن أنا والحقيقة، أنا والجثة وغداً أكون وحيداً أفارقه إلى غير لقاء([17])..
وتابع الروائي الاستباق، مخالفاً زمن السرد عندما تحدث عن بكاء الزوج والأخوة عند سماع بموت أبيهم تقول الشخصية الرئيسة: ” مهمتي في الباخرة انتهت علي أن أستعيد نفسياً للقاء أمي. سأقول لها: ” جئتك بوالدي” ستبكي أمي وتولول. سيبكي إخوتي أيضاً. وسيتراكض الجيران، هذه ليلة للسهر لا للنوم. سنمدد
([16]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 352
([17]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 254
الجثمان وسط البيت”([18]).. لقد استبقت الشخصية الزمن الواقعي، لأنها كانت تخاف أن ترى والدها ميتاً وجثته في قاع البحر، وتريد أن تكذب هذه الحقيقة. ونجد استباقاً آخر، عندما تملّص سعيد من الفتاة الصغيرة التي تسأله عن السمك وألوانه، فهو لا يحب الكذب، وقد كذب عند قوله أن اسمك متعدّد ألوان، ولا يريد أن يطيل بكذبه أكثر. تقول الشخصية الرئيسة: “أنا مشغول الآن.. اذهبي سأناديكي حين أعود…
- لا تتأخر.
- لن أتأخر
قالها وقبلها وربت على كتفها ويصرفها. وحين غادرته أحس أنه يكذب من جديد، وأنه لو بقي معها سيكذب أكثر، وتساءل كيف العمل كي لا يكذب الكبار على الصغار؟… استدار قاصداً المقهى، صمم على الرحيل الليلة بالذات.. في الصباح لا يجدونه في خيمته.. سيتوقعون أشياء لا تخطر على بال، أقلها أنه ذهب إلى المدينة في الصباح الباكر، أو أنه غرق.. أوجدت له حادث غامض، وبعضهم قد يرتاح، لأنه تخلص من شخص غريب الأطوار، وربما تفقدوا محافظ نقودهم.. غير أن النساء سيحدسن على نحو مغاير، فيرجعن السبب إلى السباق([19])..
لقد استبقت أحداثاً جمّة ستحصل في حال غيابه وعدم عودته، وما سيقولونه عنه وما ستؤول إليهم الحال، وكل هذا لأنه كذّب على الفتاة الصغيرة فقرر الرحيل وعدم العودة لعدم تكرار فعلته والتورط أكثر في الكذب. ومن هنا نجد أن الاستباق، ارتبط باستراتيجية الرواية وهدفها أن البحار لا بد من أن يمتاز بصفات متعددة ولا بد من أن يكون مخلصاً في كل شيء، بمحبته، بتصرفاته بحديثه، بوفائه…
([18]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 355
([19]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 60 – 61 – 62
(2) علاقات الديمومة:
يقوم الكاتب باختيار ما هو ذو دلالة خاصة من الأحداث أمام السرعة في القصّ، لأنه يمكن أن يسرد بصفحات متعددة مدة لا تتعدى الدقيقة الواحدة، وهذه التقنيات لها وظيفة أساسية فنية، تهدف إلى إبراز دلالات يسعى إلى تحقيقها الكاتب.
أ- تقنية التخليص:
لقد أوجز الكاتب مرحلة زمنية محددة وجدها غير جديرة باهتمام القارئ ولا تؤثر في سيرة الرواية وأحداثها. فالقصة التي امتدت على مساحة ثلاث مئة وسبع وخمسين صفحة قد استخدم الراوي هذه التقنية مرات عديدة.
قالت الشخصية الرئيسة: ” عليّ أن أودعه كبحار. لقد انتهى كل شيء الآن. لم يعد الماء ملعبي ومملكي. كابرت كثيراً، ورفضه تقبل هذه الحقيقة، وأصررت على أنني لن أحرم، وسأظل ذلك البحار الذي كفته، لكن الأعوام الطويلة، أوهنت قواي وصار علي منذ الآن، أن على الشاطئ وأخوض في الماء بمقدار، سأسبح كما يفعل الآخرون، وقد أذهب في العمق قليلاً، لكنني لن أكون فارس البحر بعد اليوم([20])..
لقد اختزل الكاتب مدة زمنية غير معروفة (الأعوام الطويلة) في أربعة أسطر وقد اقتصر على ذكر ما قاله عن نفسه بأنه لم يعد يليق بأن يكون بحاراً، فهو جلّ ما يستطيع فعله السباحة كما يفعل الآخرون، لأن الشخصية هرمت وكبرت في السن ولم يعد باستطاعتها القيام بأعمال البحارة وهي حزينة على ذلك ولذلك فإن
([20]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 7
التلخيص قد سلط الضوء على هذا الأمر، لأن ما يهم الكاتب هو إخبارنا بذلك وأيضاً ما تريد أن تخبرنا إياه الشخصية الرئيسة.
وفي موضع آخر، نلتمس تقنية التلخيص قد استخدمها الكاتب عندما اختزل مدة زمنية غير معروفة (ساعات) وهم في طريقهم إلى الشاطئ، قد تحدثوا كثيراً ولكن ما حصل أثناء رحلتهم وما تحدثوا به، لم يذكره الكاتب لأن جلّ ما كان يريد إيصاله هو أن النساء قد برقت عيونهن لإعجابهن به، وهذا دليل نفسي عن الشخصية بأنها تريد أن تكون مصدر إعجاب وكأنها فتى في مقتبل العمر، بحارٌ يمتاز بكل صفات البحّارة. تقول الشخصية الرئيسة: ” قبل ذلك، فيما هم على الطريق، تحدث عن البحر طويلاً، كانوا قافلة من السيارات، وكان في السيارة التي يركبها، يتحدث إلى من معه عن البحر… وقد برقت عيون النساء ومن ينظرن إليه بإعجاب([21])..
وكذلك نجد الروائي ” حنا مينا” قد اعتمد تقنية التخليص، فقد اختزل وحذف ساعات لم تعرف ما حصل فيها مع الشخصية لأن ما يهمه هو وصف حال السابحين وما فعله سعيد من تعليم الذين لا يعرفون السباحة.
تقول الشخصية الرئيسة: ” ثم أفطر وقصّ على الطفلة حكاية صغيرة عن البحر، وحملها ونزل بها الماء. في الضحى امتلأ الشاطئ بالناس. بدأ الصّخب والضجيج المألوفان، وشرح المستحمّون بالسباحة. كان عليه كما يليق ببحار قديم، أن يقوم بمهمته قياماً حسناً، لا بتعليم الذين لا يعرفون السباحة فحسب([22])..
([21])حنا مينا، حكاية بحار، ص 10
([22]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 26
وفي مكان آخر، تجد الكاتب قد اعتمد التلخيص، فقد اختزل مدة زمنية غير معروفة، لم يذكر فيها ما حصل أثناء الليل. تقول الشخصية الرئيسة: “استرخى في استلقائه على الرمل، وراح يتابع انعكاسات الضوء الفضي على الموج المتكسر على الشاطئ حتى غلبه النعاس فنام. في اليوم التالي أشرقت عليه الشمس وهو نائم مكانه على الرمل، ابتسم للشمس ما ان فتح عينيه([23])..
ومن هنا نجد أن الكاتب قد حصل معه أحداث كثيرة ، أي ساعات كاملة مرّت وقد مدّها القاص في سطور قليلة، لأن ما يهمه هو تسليط الضوء على ما يسعى إليه، وهو أن الشخصية لا ترتاح ولا تشعر باسترخاء إلا عندما يقبل الليل ومعه صديقه البحر.
أ- تقنية المشهد:
إن تقنية المشهد مناقضة لتقنية التلخيص، وذلك لمعرفة التفاصيل والوقوف عند جزئياتها، وهذه التقنية تكسر رتابة الحكي. وفي رواية ” حكاية بحار” قد أدّى الحوار دوراً مهماً في تقنية المشهد، لأن الرواية بكاملها قائمة على الحوار الذي دار بين الشخصيات، على رأسهم سعيد والطفلة يقول الكاتب: ” قبل ذلك، فيما هم على الطريق، تحدث عن البحر طويلاً، كانوا قافله من السيارات، وكان في السيارة التي يركبها، يتحدّث إلى من معه عن البحر كما يتحدث ملك عن مملكته، وقد برقت عيون النساء وهن ينظرن إليه بإعجاب، وقالت طفلة وهي تستلم لأحضانه في نوع من الاطمئنان:
- هل البحر كبير يا عماه؟
([23]) م . ن . ص 26
- كبير جداً يا بنيتي.
- بحجم السماء؟
- وأكبر!
فنظرت الطفلة إلى السماء وابتسمت. كانت هذه كبيرة إلى درجة لا تحد، وكان البحر قد صار أكبر من السماء في خيالها، وهي لا تعرف شيئاً أكبر منها.
- وماذا في البحر؟
- في البحر كل ما في البر… جبال ووديان، أشجار وغابات، سهول وتلال، مقابر وكهوف…
- قالت الطفلة دهشة ومسرورة وفيه سمك أحمر؟
- قال سعيد:
- سمك أحمر، فضي، وأصفر، وأخضر، ومن كلّ الألوان”([24])..
لقد أورد الكاتب هذا الحوار الذي أدى دوراً مهماً في تبيان أهمية البحر بالنسبة إلى سعيد والطّفلة، فالبحر هو مصدر السعادة والفرح لكليهما. وكذلك الأمر، فإننا نجد في حوارات أخرى جرت بين سعيد وباقي الصّحب، مشاعر الحب والتعلق الشديد بالبحر ظاهرة وواضحة من خلالها.
تقول الشخصية الرئيسة: ” قالت سيدة أخرى:
- من رأى عروس البحر إذن؟
([24]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 10 – 11
- بعض الصيادين. يقال أن عروس البحر تعشق انسياً، وفي بعض الليالي تخرج من الماء وتمشي على الشاطئ، وقد تتمدد على الرمل فتنام، فإذا أشرقت عليها الشمس عجزت عن الحركة والعودة إلى الماء، وعندئذ يصطادونها.
- وماذا يفعلون بها؟
- يفتتون بها. يحافظون عليها، ويبذلون حياتهم إرضاءً لها إذا طلبت منهم ذلك.
- ولماذا لا يتزوجونها؟
- لا يستطيعون.. شرطها للزواج أن يذهب معها الصياد إلى مملكة أبيها في أعماق البحر،..
- ولماذا لا يذهبون معها إلى مملكة أبيها؟
- لأن الإنسان الذي ولد وعاش على هذه الأرض، لا يقوى على مغادرتها السمكة تحب البحر، والإنسان يحب الأرض، وهذه هي المسألة.
- من يحب امرأة يخضع لها… السمكة وفيه كالإنسان بل أكثر وفاء من الإنسان.
- وماذا تعشق عروس البحر في الصياد؟
- شبابه، الإنسان أجمل المخلوقات في الشباب…
- أنت تعشق عروس البحر كما يبدو فكيف تقول أنك لم ترها؟ صمت سعيد”([25])..
([25]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 11 – 12 – 13 – 14
من هنا نجد أن هذا الحوار قد أوضح أهمية البحر بالنسبة إلى سعيد، وكذلك فإن عروس البحر نجواه وحبّه، ولكن ما يعترض طريق هذا الحبّ، العمر، لأن سعيداً في مكنونات نفسه حزين فقد كبر في السن ولم يصلح لأن يحُبّ ويُحَبّ… وفي موضع آخر، نجد أن تقنية المشهد قد ظهرت من خلال حوار آخر، جرى بين سعيد والصّحب، أثناء حديثه عن قصّة الخاتم والمرأة التي رآها داخل المخزن وأعجب بها.
تقول الشخصية الرئيسة: ” كان القمر يتوسّط السماء الآن، والبحر يواصل تدحرجه على الرّمل، وهديره الحلو يعطي إيقاعاً مغرياً بالسهر، والدنيا صيف، والسماء صافية، مضاءة بألف فضي أليف.
- ما أغرب هذه القصة. تكاد لا تصدق.
- وقال آخر:
- غرائب البحر كثيرة.
ولاحظ سعيد أن بعض السيدات انسحبن، واستمعن إلى بقية القصة من داخل خيمة قريبة… وقال: اعذروني… فقد أسأت الأدب بصراحتي الكاملة… وقال الرجل الحلف الذي جاء في أول الليل إلى خيمته: كان عليك أن تنتبه لوجود.. ولم يكمل الجملة… وقال الرجل الآخر، المثقف، والد الصغيرة: لا يهم.. في الكتب تروي الأشياء بتفصيل أكبر، وكلنا تقرأها”([26])..
([26]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 140 – 141
أراد الكاتب من خلال هذا الحوار وهذه التقنية أن يظهر المشاعر الجياشة التي كانت تعتري سعيداً تجاه تلك الفتاة وهذه المشاعر جعلته لا ينتبه إلى التفاصيل الدقيقة للعلاقة القائمة بينهما، وهنا صورة واضحة عن أخلاق الأشخاص وتربيتهم.
إن هذه الأمثلة القائمة على الحوار بين الشخصيات لتصل في خواتيم الرواية إلى عبرة أو مثل يبغي الكاتب إيصاله إلى القارئ ليتخذه في حياته ويستفيد منه أو ليعرف عالم البحر والبحارة وشخصياتهم.
ج- تقنية الوقفة
لقد لجأ الكاتب إلى هذه التقنية لوصف البحر والسابحين والنسوة (عرائس الماء) وسعيد يتوسط هذا الوصف والجمال وقد وصف الكاتب بحره وصفاً دقيقاً مفصّلاً. تقول الشخصية الرئيسة: “نحن لا نتكلم عنك. أنت، عدم المواخذة، وحش بحر… أنت لا تخاف يا أبا سعيد. لا أحد لا يخاف… الشجاع نفسه يخاف. لكنه يقاوم هذا هو الفرق… قاوموا أينما كنتم.. هذا ما علتني إياه الحياة… يقول ذلك، أو ما شابه. ويصمت ويبدو مأخوذاً مع تيار شعوري خاص، كأنه يسترجع، في مثل هذه الأوقات ومضات من عالم آخر ليحلّ الضوء ذرات في مائه، وينفتح قاعه عن خضرة عجيبة، سندسية تتفرق في أرجائها كائنات، وتقوم تضاريس، وتتقاطع خطوط صخرية، ذات كوى ومغائر، وتنبت حشائش وتتشقّق أكمام ورد أبيض، ويجلس هو في الوسط، ملكاً متوجاً من حوله عرائس الماء يغنين بأصواتٍ رخيمة، تتضوأ قدودهن، وتتمايل، عبر الشفوق المائية، أجسامهن الممشوقة، الجميلة كأجسام الآلهة ويميل النهدان، في كل صدر، بشكل منفرج، والحلمات، من توثب، خناجر عنبية، مزروعة وسط شقوق مكوّرة من بللور… ومع أنه لم يكن يفصح عن مشاعر من هذا النوع… إلا أن رومانتيكية شباب غارب ما تزال تسيم تصرفاته.. يمارس أمنيات نابعة مما يسمح من حكايات البحر([27])..
فقد قطع الكاتب الحوار الذي يدور بين سعيد والصّحب إلى وصف البحر والنسوة وما يختلج في قلبه من مشاعر ورؤى وأحلام. لقد ركز الكاتب على وصف هذه المشاعر، وتوقف أمام تفاصيلها، بهدف خدمة هدف موافقة، القائمة على تبيان المشهد العام للبحر وما يحصل فيه وعليه ودعوة إلى محبته وزرع الشوق للعيش في تفاصيله وكذلك تبيان ما يختلج في قلب الشخصية الرئيسة (سعيد) من مشاعر وشوق اتجاه حياة البحّارة والغوص في أسرارها وعيش تفاصيل حياة الشباب، لأن سعيداً يفتقدها كثيراً.
وفي موضع آخر، نجد الكاتب استخدم الحوار ليلجأ فيما بعد إلى وقف السرد ويصف حال فوزية وما آلت إليه حالها النفسية والجسدية، وليرجع من جديد إلى استكمال ما حصل في هذا يقول الكاتب: ” ولم يكترث لما حطمه من صحون وأقداح، لكن شبعو جاء إليها، إلى طاولة صالح، وحاول جرّها إلى طاولته بالقوة.
- يا عاهرة، تأخذين مالي وتذهبين إلى غيري.
- أنا لا آخذ مالك… أنت لا تملك مالاً أصلاً… كلّ ما تكسبه تنفقه على السكر.
- أنفقته عليك…
- فشرت قحبة
- وصفعها بوحشية…
([27]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 145 – 146
صرخت فوزية من الألم. كانت عزلاء ولم يستطع الخدم إنقاذها من يديه. عندئذ تدخل صالح… عمد إلى تهدئة شبعو وتخليص فوزية من يديه.
- اهدأ يا شبعو! صاح محتداً.
- دعها ولا تتدخل يا صالح.
- ولكنها امرأة… لا تخجل؟
- أنا أخجل… أما أنت..” ([28])..
إن الكاتب قد وقّف الزمن ووقف عن السّرد، ليصف الحال النفسية وليقدم العبرة للقارئ ولشبعو، وكذلك ليصف شهامة الرّجل المحافظ والذي يعرف أن المرأة لا تضرب ولا تهان ويجب مساعدتها مهما كان الأمر وأيضاً من أجل وضع القارئ ضمن الإطار العام الذي تم من خلاله السّرد فيتعايش تفاصيل الرواية ويتواجد في مكانها وزمانها.
د- تقنية القفزة:
لقد استخدم الكاتب تقنية القفزة ليخدم استراتيجية العامة في بنية نصه الروائي. وهكذا أسقط سنوات عديدة، لم يذكر فيها ما جرى من أحداث، لأنه اعتبر ذلك غير مهماً وسيكون عبئاً على إستراتيجيته في المتن الروائي.
([28]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 155
ونقع على مثال، من تقنية القفزة في رواية “حكاية بحّار” عندما قام سعيد بافتعال مشكلة مع السّاقي في المقى وقد قام الكاتب بقفز مرحلة زمنية، لم تعرف ما حصل خلالها من احداث، لينتقل إلى وصف حال سعيد وهو موجودٌ داخل الخيمة والليل قد أسدل ستائره.
تقول الشخصية الرئيسة: “ولم يقل سعيد شيئاً. مدّ يده ونحى القدح، فلما فتح الساقي الزجاجة قبض عليها بقوة، ورفعها إلى أعلى فإذا ما فيها من سائل يجري في شدقه المفتوح… أطفئت الأنوار على الشاطئ. الخيام أسدلت الستائر على الأبواب، ولم يبق ساحراً إلى القمر في السماء، وسعيد حزوم، أمام خيمته على الأرض… وتوقف الغناء الذي كان ينبعث من آلة تسجيل مفتوحة على مدى الصوت([29])..
وفي وضع آخر، لقد وظف الكاتب القفزة مرّة أخرى، ليعطينا فكرة عن طبيعة حياة البحارة وما جرى مع سعيد من قصص عن البحر وبطولاته.
تقول الشخصية الرئيسة: “قال سعيد: خلال عملي في البحر، على احدى سفن الشحن، تعرّفت إلى معظم مرافئ العالم. كانت السفينة من عابرات المحيطات، تتسع لحمولة كبيرة جداً، وتضطر إلى الرسو أسبوعاً أو أسبوعين، بينما يتم التفريغ والتحميل. وكانت الأيام نقضيها على البرّ ممتعة، فالبحار يمكث طويلاً على ظهر السفينة المبحرة، لا يرى غير السماء والماء، ولا يفعل سوى العمل والأكل، محروماً من رؤية اليابسة محروماً..” ([30])..
ومهما يكن من أمرٍ ،تجد أن حنا مينا قد أجاد التعاطي مع علاقات الديمومة، وسلط الضوء على التقنيات الأربعة مما يضع هذا العمل في المستوى اللائق، فقد وظفها الروائي كلها وخدمت إستراتيجيته في المتن
([29]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 72 – 82
([30]) م . ن ، ص 105 – 106
الروائي، وقد تصرّف بالزمن بما يتلاءم ونظراته إلى الواقع الذي عاشه وعايشته الشخصيات وطبيعة البشر التي عايشته وعايشت غيره.
3- علاقات التواتر في رواية خنّا مينا “حكاية بحار
مدخل نظري:
يحدد جينيت التواتر السّردي بأنه علاقات التكرار بين الحكاية والقصّة([31]).. وهي تتركز في أربع علاقات تنتج ثلاثاً من الحكايات: الحكاية التفردية والحكاية التكرارية والحكاية الترددية.
وتعني الحكاية التفردية حسب ما يرى جينيت أن يروي مرّة واحدة ما وقع مرّة واحدة، أو أن يروي مرات لا متناهية ما وقع مرات لا متناهية، أما الحكاية التكرارية فتعني متغيرات أسلوبية أو تنويعات في وجهة النظر، والحكاية الترددية أخيراً هي النمط الذي يُروي فيه مرّة واحدة وقع مرات عديدة أو لا نهائية([32])..
ويسمي تودوروف هذه الأنواع من التواتر بالقص المفرد وهو الحكاية التفردية، والقصّ المكرر وهو الحكاية التكرارية، والقصّ وهو الحكاية الترددية([33])..
([31]) جرار جنيت، خطاب الحكاية ص 129
([32]) م. ن . ص 130 – 131 – 132
([33]) تزفيتان تودوروف، الشعرية، ص 49
وبينما يعدُّ جينيت وباحثون آخرون أن التواتر هو “مظهر من المظاهر الأساسية للزمنية السّردية([34]).. فإن هناك من يرى أن : ” التواتر عنصر قائم على جسر بين ما يخصّ مقولة الزمن وما يخصّ الأسلوب([35]).. بل هناك من ينفي تماماً صفة الزمنية عن التواتر مشيراً إلى أنها “طبع من طباع الخطاب القصصي”([36]).. لا أكثر.
ولا ريب أنّ هناك مفاهيم تتداخل في مقولات النص الأدبي ومن بينها مفهومها الزمن والأسلوب اللذان يشكلان وجهي التواتر، ولا سيما عندما يتعلق الأمر باسترجاعات واستشرافات تواترية، ولا شي يمنع عندئذ من دراسة التواتر في وجهيه.
وسنقوم بدراسة التواتر في قصة “حكاية بحار”
أ- التواتر الانفرادي/ الحكاية التفردية:
في هذه الرواية، تقع على غير مثال الخطاب الذي يكون وحيداً ويحكى مرّة واحدة. منها قول الكاتب على لسان الشخصية الرئيسة: “كان يفتح عينيه ويغمضهما، ويشد بجسمه على الرمل كما لو أنه يود أن يغوص فيه. وقد قال في نفسه: “وداعاً أيها البحر”. قال أيضاً: “علي أن أودعه كبحار”([37])..
لقد أناط الكاتب بالشخصية الرئيسة في حكاية بحار دوراً مهماً في توضيح رؤيته إلى ما حوله وعصره. وشخصية سعيد هي أنموذج عن شخصيات عصره وتفكيرهم وصورة عن طبيعة حياتهم المعاشة ومتطلباتهم وحاجاتهم ودوافعهم وتمنياتهم، إن الشخصية الرئيسة قد تقدمت في السن وهي لا تجد نفسها بعد صالحة لأن
([34]) جيرار جنيت، خطاب الحكاية، ص129
([35]) يمنى العيد، تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، منشورات دار الفاربي، بيروت ط2، 1999، ص 87
([36]) عبد الوهاب الرقيق في السرد، ص84
([37]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 7
تكون بمصاف البحّارة، لأن البّحار بحاجة إلى القوة الجسدية والروح الشباب على الرغم من أن عشقه للبحر يفوق كل عشق وهذا دليل على حبّ الأرض والعمل والوفاء لهما.
لذلك قامت الشخصية بوداع البحر وكأنها تودّع حبيباً غالياً على قلبها وهي مجروحة. ولعلّ هذا التواتر الانفرادي قد أدى دوره لإيصال الدلالة المقصودة غير الإيحاء.
ب- التواتر التكراري/ الحكاية التكرارية:
يجد الروائي إن من الضرورة أحياناً أن يأتي ذكر ما حدث واحد من أحداث الرواية، غير مرّة في نصّه الروائي، وذلك للتعبير عن الهواجس والمخاوف، أو التطلعات التي يشير إليها الحدث، وهذا التكرار المقصود يوحي بدلالات معينة بهدف إليها الروائي.
ومن الأمثلة على ذلك قول سعيد على لسان الشخصية الرئيسة: ” وكان البحر أمامه قد غدا منبسطاً رحيباً ترفّ عليه آخر ظلال النور وهذا عالمه، هذه دنياه ومرتع صباه… إن روحاً غريبة ستطوف بالبحر ليلاً… هو، سعيد حزوم، يعرف هذه الروح”([38])..
وفيما بعد قالت: “ومن العبث أن تتحدث إليه عن مشاعرك الخاصة، مشاعر إنسان حيال البحر، وفي ليلة مقمرة كهذه، وفي هذا الجو الرائع الذي أفسده بأسئلته الغبية والحاحه الفظ([39]).. وكذلك قالت فيما بعد: ” في هذه الحالات يصبح سعيد مستعداً أن يقول للبحر الكلمات وأحرّ الصراعات”([40])..
([38]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 18 – 19 – 20
([39]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 95 – 96
([40]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 103
كررت الشخصية أمر حبها للبحر وعشقها لمائه، فإنها تجد راحتها النفسية أمامه ومعه وفيه، وتحسبه كإنسان تعبر عن مشاعرها تجاهه. وهذا تنويه بأهمية الإخلاص للعمل والانتماء إلى الوطن.
ج- التواتر النمطي/الحكاية الترددية:
إن هذه التقنية الفنية تتضمن ” حالاً من التكثيف السردي للزمن الطويل الممتد، الذي تشعر به الذات([41]).. وهذا التكثيف يتطلب إيحاز الأحداث النمطية التي تتكرر يومياً أو كل مساء، أو كل شهر في جملة واحدة تعبر عن هذا الزمن المتكرر الذي تمرّ به الشخصية.
يمكننا الوقوف أمام هذا المثل من التواتر النمطي. تقول الشخصية الرئيسة: “أما سعيد فقد قصد “البار” رأساً كان يفضل على “كازينو” كهذا، مقهى شعبياً إلا أن الأوادم الذين جاء معهم أمس، فرضوا عليه أن ينزل في هذه البقعة من الشاطئ، وأن يلتزم شيئاً من السلوك المهذب، فلا يأتي بالخمرة من الخارج، بل يطلبها من بار الكازينو”([42])..
هذه السّطور توحي بتكرار ما يقوم به سعيد يومياً، غير مرّة، لجعل الشخصية قادرة على استئناف الدور المنوط به والذهاب يومياً عند المساء إلى المقهى أو الكازينو لتناول الخمرة وهذا دليل على تبيان حالة وعيشة البحّارة، فإنهم يحاولون نسيان مشاكلهم بهذه الطريقة و بذلك يستطيعون تغيير الواقع ربما، أو الهروب من الواقع المرير الذي يعيشونه.
([41]) مراد مبروك، الزمن في الرواية المعاصرة، ص46
([42]) حنا مينا، حكاية بحار، ص 64
مهما يكن من أمر، فإن التواتر، بأنواعه التي قدمت قد أسهمت في الكشف عن خبايا التفكير والوضع الاجتماعي المعاش في تلك الآونة من الزمن، كذلك تسليط الضوء على أن ما يحلم به إنسان ذلك العصر، وليس أي إنسان، ذلك البحار الذي يعرّض نفسه للخطر والمغامرة ويسعى إلى تأمين لقمة عيشه بكده وتعبه وهذا الأمر من الأمور التي تعتبر من الحقوق الإنسانية.