كشف باحثون أن اضطرابات النوم لا تؤدي إلى تضخيم مناطق الإحساس بالألم في الدماغ وحسب، بل تعطل كذلك مراكز تسكين الألم الطبيعية
ديانا الشمري
هل تعاني من الألم؟ كم عدد الليالي التى مررت فيها بتجربة الحصول على نومٍ غير كاف؟ وهل توجد علاقة بين الشعور بالألم والمعاناة من الأرق؟ يبدو أن إجابة السؤال الأخير هي: نعم! فقد قدمت دراسة حديثة لفريق بحثي من جامعة كاليفورنيا الأمريكية تفسيرًا للآليات الدماغية والسلوكية التي تغذي التلازم بين الألم والحرمان من النوم، وذلك عبر الكشف عن جذور هذه العملية الحيوية، وتأثيرها على مسارات الألم في الدماغ.
في الدراسة المنشورة في دورية (Journal of Neuroscience) المعنية بأبحاث الأعصاب، وضع الفريق يده على مواطن الخلل العصبي في الدماغ الذي يسببه الأرق، واكتشفوا أن الحرمان الحاد من النوم يسبب اضطرابًا في تعامل المخ مع الشعور بالألم ويجعله أكثر تأثرًا بالأوجاع.
وللوصول إلى تلك النتيجة، درس الباحثون العلاقة بين النوم والشعور بالألم من خلال تجارب أُجريت في مختبر مخصص لأبحاث النوم على 25 شابًّا من الأصحاء ممن لا يعانون من اضطرابات النوم أو الألم، بهدف معرفة مدى شعورهم بالألم بعد النوم ليلةً في المختبر.
استثار الباحثون هؤلاء الشباب عن طريق تعريض الجزء الأسفل من الساق لدرجات حرارة تزداد تدريجيًّا، حتى بدأوا يشعرون بالألم. هدف التجربة كان استنتاج نشاط المخ في مناطق مختلفة منه، إذ كان على المتطوعين ذكر مستوى شعورهم بالألم، من خلال مؤشر متدرج من 1 إلى 10، ووجد الفريق أن المشاركين شعروا بالحرارة واعتبروها غير مريحة عند درجة 44 مئوية في المتوسط.
كرر الباحثون التجربة ذاتها على المشاركين بعد قضاء ليلة من الأرق وعدم انتظام النوم، ووجدوا أن معظمهم شعر بالألم الحرارة عند درجة 42 مئوية في المتوسط.
وفي كلتا التجربتين، قام الفريق بتسجيل نشاط أدمغة المشاركين واستجابتها للألم عن طريق جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي.
أظهرت النتائج أنه حتى التغيرات الطفيفة في أنماط النوم والاستيقاظ كانت مرتبطةً بتغيرات حساسية الألم؛ إذ أثبتت نتائج التصوير بالرنين المغناطيسي أن اضطرابات النوم تُظهر استجابةً مغايرة في القشرة المخّية، وما أدهش العلماء فعلًا هو النشاط المتزايد في منطقة “النواة المتكئة” (Nucleus accumbens)، وهذه المنطقة مسؤولة عن المكافآت بالدماغ البشري، ومن بين وظائفها أيضًا زيادة مستويات الدوبامين لتخفيف الألم.
واكتشفوا أيضًا أن اضطرابات النوم لا تؤدي إلى تضخيم مناطق الإحساس بالألم في الدماغ وحسب، بل تعطل أيضًا مراكز تسكين الألم الطبيعية أيضًا، التي تتمثل في منطقة “الفص الجزيري” (Insular Cortex)، وهي
جزء من القشرة المخية مسؤول عن تقييم إشارات الألم، وتهيئة الجسم لمواجهة الأوجاع وتخفيفها بشكل طبيعي.
النوم والألم
في حديث لـ”للعلم”، تحدث “آدم كراوس” -الباحث بمركز علم النوم البشري في قسم علم النفس بجامعة كاليفورنيا، وأحد المشاركين بالدراسة- عن دوافع فريق البحث لإجراء هذه الدراسة، قائلًا: “مَن يعانون من آلام الظهر المزمنة والمستمرة يعلمون أنهم لن يناموا بشكل جيد من شدة الألم، كما أنهم يعلمون أنهم كلما كان نومهم أسوأ ليلًا، زادت آلامهم في اليوم التالي، وكان هدفنا هو تأكيد هذا الحدس علميًّا وتقديم إجابة عن سؤال كيف يؤثر ضعف النوم على الألم؟”.
وأضاف: “كانت هناك بعض المفاجآت في نتائجنا، ولم يكن مستغربًا أن الحرمان من النوم زاد من حساسية الألم، لكننا فوجئنا بمدى قوة التأثير، فما يقرب من 80٪ من المشاركين في الدراسة أصبحت حساسيتهم للألم شديدةً مع حدوث اضطرابات في النوم. إنه لَأمرٌ مخيف أن نرى ذلك، ولكنه مشجع أيضًا، فالنتيجة ببساطة أنه يمكننا مساعدة كل شخص يعاني من الألم تقريبًا عبر تحسين نومه”.
وعن تأثير تعطيل مناطق ردع الألم في الدماغ، شبّه “كراوس” ما يحدث في أثناء اضطرابات النوم بشخص ترك الباب مفتوحًا وقت حدوث فيضان، وهكذا تحتجز هذه المناطق المسؤولة عن مواجهة الأوجاع في الدماغ شلالات إشارات الألم وتكبح جماحها عندما يهنأ الأشخاص بليلة نوم هادئة.
وحول الأهمية الرئيسية لنتائج الدراسة وتطبيقات العملية المفيدة، قال: “لقد تأكدنا أن النوم والألم مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، ويحدونا الأمل أن تشجع هذه الدراسة الأطباء على جعل النوم بديلًا أفضل لمركز علاج الألم من المسكنات التقليدية؛ فالنوم يمكن أن يكون مسكنًا طبيعيًّا للألم”.
بالإضافة إلى ذلك -والحديث لكراوس- يمثل الألم المزمن والمستمر أكثر الحالات الطبية قسوةً وأشدها تكلفةً، وفي الوقت الحالي، فإن أكثر العلاجات شيوعًا هي المواد الأفيونية المخدرة، بما في ذلك المورفين والهيروين والفنتانيل والأوكسيكودون، وهذه الأدوية فعالة في الحد من الألم ولكن لها مجموعة من الآثار الجانبية أبرزها الإدمان، كما أنها تسبب اضطرابات النوم في مراحل تالية أيضًا، وبالتالي ستفقد فاعليتها مع الاستعمال المتكرر.
غيبوبة صناعية
“مصطفى قطب” -أستاذ جراحة المخ والأعصاب، والرئيس الفخري للجمعية المصرية لجراحة الأعصاب- قال: إن نتائج الدراسة تتَّسق مع الممارسات المهنية التي يستخدم فيها أطباء الأعصاب النومَ علاجًا لآلام إصابات المخ، كصدمات الرأس والنزيف، أو جلطات المخ، هذا يسمى “غيبوبة صناعية”، يأخذ فيها المريض فترة من النوم، كي يستريح المخ.
وفي حديث لـ”للعلم”، أضاف أن النوم يؤدي دورًا أساسيًّا في تخفيف الآلام، عن طريق زيادة إفراز هرمونين طبيعيين في الدماغ مسؤولَين عن تخفيف الشعور بالألم، هما “السيروتونين” و“الإندورفين”.
لكن في الوقت ذاته، ولكي يستفيد الأشخاص من فوائد النوم في تخفيف الآلام، نصح “قطب” بأن يكون النوم بشكل طبيعي، دون تناول أقراص منومة أو مهدئة؛ لأن المخ يكتفي في حالة تناول هذه الأقراص بالمواد الكيميائية الموجودة في تلك العقاقير، ولا يفرز الهرمونات التي تسكن الأم بشكل كبير.
تحسين النوم
ولكي يكون النوم طبيعيًّا، نصح “قطب” باتباع مجموعة من الخطوات، أبرزها الحرص على ممارسة الرياضة، والهوايات كالرسم مثلًا، بالإضافة إلى عدم تناول الأطعمة الدسمة قبل النوم، والابتعاد عن أجواء التوتر وشدّ الأعصاب.
واتفق معه “ساهر هاشم”، أستاذ أمراض المخ والأعصاب بكلية الطب جامعة القاهرة، والرئيس السابق للاتحاد العربي لأمراض المخ والأعصاب، مؤكدًا أن الأشخاص في الظروف الطبيعية عادةً لا يجدون صعوبةً في النوم، والعقبة الكبيرة تكون أمام المرضى، فالمصاب بالصداع النصفي على سبيل المثال يعاني آلامًا مبرحة، وكل أمنياته أن يدخل في نوم عميق كي يستريح من الألم.
لكن في المقابل، هناك عوامل تساعد المرضى على تحسين جودة النوم -حسبما يشير هاشم- هي التعايش والرضا بالواقع أيًّا كان، وعدم السخط، بالإضافة إلى ممارسة الرياضة قدر المستطاع؛ لأنها تساعد الدماغ على إنتاج العديد من الببتيدات الداخلية شبيهة الأفيونية (أي تشبه بتركيبها مادة الأفيون المخدرة)، وتساعد على تسكين الآلام بشكل طبيعي.
الخطوة التالية
وعن خطوات الفريق المقبلة، أشار “كراوس” إلى أن الفريق سيركز على دراسة العلاقة بين النوم والألم المزمن، بهدف الحد من الحاجة إلى العقاقير الأفيونية، في خطوة للتعامل مع الألم على المدى الطويل، بالإضافة إلى التركيز على جوانب النوم الصحي للحد من تجربة الألم، على سبيل المثال، هل هناك مرحلة معينة من النوم أو آلية معينة لدماغ النائم تحافظ على عمل أنظمة التحكم في الألم الطبيعية الداخلية على النحو الأمثل؟ وهل سيساعد ذلك في تحديد نصائح محددة للنوم للاستفادة بصورة قصوى من فوائده في الحد من الألم؟