ندوة حول الشاعر سليم حيدر

ندوة حول الشاعر سليم حيدر

الثلاثاء 14 آذار 2017

كلمة التقديم: فرنسوا قــــزّي

السيدات والسادة

أمام الرجال الكبار تقف متهّيباً، وعندما تَلِج معابدهم الفكرية، تشعر بشغف رسولي يشدّك الى عظمة الكلمة وسحرها، فيستهويك ما فيها من إبداعٍ يُخفي وراءَه عقلاً نَيّراً وثقافةً ثرّةً، فالقراءة هي عملية تسلَل لبق ولطيف إلى أعماق المؤلف لمشاركته همومه وقضاياه، والسفر معه الى العالم المشتهى.

فالشاعر سليم حيدر انفتحت أمام قلمه أبواب السماء وأبواب الأرض والزمن، فوجد نفسه في وطن تنوعّت ثقافة أبنائه، وتعدّدت انتماءاتهم واتجاهاتهم الدينية والفكرية، فراح قلمه يغرف من هذا المعين ليغزل شعراً وينثر فكراً مستمداً من هذا الواقع. وقبل أن نخوض في عالمه الشعري، ونستعرض بعض مؤلفاته والمواضيع التي عالجها، نتوقف عند مراحل أساسية من مسيرة حياته:

 

أولا”: سليم نجيب حيدر (1911 – 1980)

–        شاعرٌ من بدنايل – قضاء بعلبك

–        دكتور في الحقوق

–        قاضٍ ودبلوماسي (سفير لبنان في إيران وأفغانستان والمغرب والاتحاد السوفياتي) ووزير ونائب…

–        شغل حقيبة وزير في ثلاث حكومات متتالية من العام 1952 حتى 1955.

–        انتخب نائباً عن البقاع في دورتي 1953 و1968.. مثَّل لبنان في مؤتمرات دولية… مسيرته السياسية غنيّة بالإنجازات فهو الذي تقدّم باقتراح “قانون الإثراء غير المشروع” 1955.

–        ومسيرته الأدبية والفكرية غنيّة ومتنوعة، وله مؤلفات كثيرة صدر معظمها بعد وفاته (1980).

 

ثانياً: مؤلفاته.

عاش سليم حيدر في فترة زمنية أضاءتها منارات شعرية متوهجة من أمثال أمين نخلة، وبولس سلامة والأخطل وصولاً الى أحمد شوقي وخليل مطران وإيليا أبو ماضي وغيرهم.

أ – الخليقة: هي ملحمة تختلف عن ما ألفناه في الشعر الملحمي كالإلياذة، والمهابهاراتا، والشاهنامة، إذ لا تعتمد الميثولوجيا في رسم ملامح الشخصيات وتصوير بطولاتهم، إنما هي ملحمة ذات منحى ديني استقتْ مواضيعها من الكتب الدينية كالتوراة والقرآن الكريم، وهي تحتوي على خمسة فصول لكل منها ثمانية أناشيد, وقد بلغتْ هذه الملحمة ألفين وسبعماية وأربعين بيتاً من الشعر الموزون المقفّى.

ب – آفاق:                  ديوان شعر صدر 1946/2016

ج – ألسنة الزمان:         مسرحية 1956/2016 قدّم لها الفيلسوف كمال يوسف الحاج

د – يا نافخ الثورة البيضاء: 1971/2016 ذكرى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر قدم له الصحافي طلال سلمان.

هـ – مهرجان العدالة      (احتفال تكريمي لسليم حيدر في قصر العدل عند تسميته سفيراً فوق العادة في إيران 1946 – قدّم له الدكتور غالب غانم الذي أطلق على الشاعر حيدر لقب فتى العدالة)

و – أشواق2016        قدّم له الأديب توفيق يوسف عواد

ز – ألوان2016

ح – ألحان2016         استهله بقصيدة ألقاها في الحفلة التي أقامتها مدينة بعلبك بمناسبة تعيينه وزيراً مفوضاً في طهران 1946.

ط – أشجان2016        قدّم له المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله.

ي – لبنان2016          قدّم له الأستاذ إدمون رزق

 

هذه الطاقة الإبداعية التي تجلَّت واضحة، في مؤلّفاته الشعرية، دعائمها ثقافة تاريخية ودينية واسعة، وقدرة بلاغية ولغوية ساعدته في انتقاء مفردات وقوافٍ، تدفعنا أحياناً للعودة الى قواميس اللغة.

ففي دواوينه مطوّلات شعرية تستنزفك قبل أن تستنفذها، أو قل هي أهرامات متناسقة الأضلاع والزوايا والخطوط، أو قلاع شعرية مرَّتْ فوقها هامات الزمن فانحنتْ عند قوافيها العجاب… ما أغناك أيها الشعر عندما تتناغم قوافيك، وتتوازن مغانيك، وتتعمق معانيك، فترتدي الثوب السماوي لتعبر بالإنسان من العالم الترابي الى العالم الأسمى (في معظم مؤلفاته).

 

ثالثاً: في الإتجاهات الفنية والفكرية.

تنوّعت الفنون الشعرية في مؤلفاته، من الملحمي والمسرحي الى القومي والوطني، وصولاً الى الشعر الغنائي بوجهيه (الوجداني والرومنطيقي).

أما النزعة القومية فنتنسّمها في معظم دواوينه، بخاصةٍ في مطوّلته الشعرية “يا نافخ الثورة البيضاء”. وقد أُلقيت هذه القصيدة في الاحتفال الرسمي الذي أقامه لبنان تخليداً لذكرى عبد الناصر في قاعة الأونيسكو الكبرى نهار الأحد الواقع فيه الثامن من تشرين الثاني 1970، بحضور فخامة رئيس الجمهورية سليمان فرنجية وأركان الدولة، ومطلعها:

تأجّج الكونُ وانجابتْ رؤى الدِيَمِ        يا ديمةَ الدمعِ طَفّي النارَ واضطرمي

يا نافـخ الثـورة البيضاء في هَمَلٍ       توارثــوا اللهجـة السـوداءَ مــن قِــدَمِ

غِلالـةُ المـوتِ فَكَّـتْ غُـلَّ أنفسِنـا        منــك السمـــاحُ ومنّــا دمعــةُ النـــدمِ

وقد قدّم لهذه المطوّلة التي نُشرت ْ في كتيّب، سنة 1971، كلٌّ من: الشاعر بولس سلامة، والشاعر عمر أبو ريشة والصحافي طلال سلمان.

لا تنفصم النزعة القومية والوطنية عنده عن المفهوم الاجتماعي والتربوي، فهي التزام خُلُقي، إذ لا أوطان بدون أخلاق.

ففي شعره الوطني نفحة إنسانية، وصرخة شاعر مؤمن، مثقّف وملتزم، حاول اجتراح المعجزات لإنقاذ وطنه، يقترح القوانين، ويضع الحلول;يصرخ في المنتديات، يحاور، يعقد لقاءات واجتماعات مع كوكبة من أصدقائه الوزراء والنواب، ينادي على الخاملين المتواكلين، أنْ قوموا نعملْ معاً لإنقاذ لبنان، فالمحنة التي حلَّتْ بلبنان لا يُطفئَ نيرانها إلا من لسعهم لهيب هذه النار، فكانت قصيدة “المحنة” في ديوانه “لبنان”:

لبنـان، هـل زعـزع الإيمـانَ كفـرانُ    أم روضة الإنس قد حلَّتْ بها الجانُ

يـــا موطنــاً حَسدَتْـــهُ فـــي تَطلُّعِــهِ    الــى تلمّــس وجـــه اللـــه أوطـــانُ

لبنان إن لـم تكـنْ روحـاً فقـد دَثـرتْ    مــــــآذنٌ ونواقيــــــسٌ وصُلْبــــــانُ

همـسُ الملائـك لا يهمـي علـى بشرٍ    إنْ كان فـي الأنفـسِ الدكنـاءِ شيطانُ

هيهات يجدي حوارٌ، والنفوس لظىً     وفـــي الطويَّــات أرجـــاسٌ وأدرانُ

بئسُ الحوار كلام في النهـار هـدىً     وفـــي الظــلامصواريــخٌ ونيــرانُ

 

رابعاً: الشاعر الإنسان.

شاعرٌ ذهبيٌ الفمِ، حصيفُ الرأي واللسان، ينثر قصائده لُمَعاً، من أقوال الأنبياء، صادقٌ، مرهفُ المشاعر يستوطن قلوبنا بشعره.

حدائقُ شِعْرِهِ كحدائقِ الحياةِ بألوانها تتنَّوعُ بين اجتماعيةٍ وفكريةٍ وفلسفيةٍ، بالإضافة الى المنحى الغنائي، تَرفُدُهُ في ذلك لغةٌ غنيّةٌ وثقافةٌ خصبةٌ، وخيالٌ واسعٌ، وباعٌ طويلٌ في حسن اختيار القوافي والقدرةِ على التزام عامود الشعر التقليدي “أغفو وأنام على أوزان الشعر العربي”

هو في حالة تنقيب دائم عن… يتعقّب المخفيّ، يتحرّى ويفتّش، فهناك مجهولٌ يتوخى اكتشافَهُ، في معظم قصائده تَوْقٌ الى المعرفةِ فتكثُرُ لديه علاماتُ الاستفهام، حتى في قصائده الغنائيَّة، يتساءلُ عن ماهيَّة المشاعر في امتداداتها واندياحاتها. يختزِنُ في ذاتهِ حزناً عميقاً أَخْصَبَتْهُ التجاربُ والثقافاتُ، فيوظِّفُهُ في عملية الخلقْ الشِعري الرُؤيوي، كما أنه يعيشُ حالةً من الفرحِ الهادئ، تتلَّون به أجنحِةُ قصائده، فتبرز لديه بعضُ المناحي الصوفيةِ في تصويرِهِ مَظاهِرَ الطبيعةِ والحياة، مما يذكّرنا بالشاعرين الفرنسيين لامارتين وفيكتور هوغو.

مَوْسوعِّيِ المدارِكِ، واسعُ الآفاقِ، لامَسَ المُعْضِلَةَ الوجوديَةَ في طَرْحِهِ قضايا فلسفية، ترتبِطُ بِكَيْنونَةِ الانسانِ ومَصيرِهِ.

شاعرُ الخاطرِ، أطلقَ شِعْرَهُ نحو آفاقٍ رَحْبَةٍ بعيدةِ المَنال، وقد خرجَ به الى العالمِ الأوسَع، فلم يَعُدْ مَعَهُ الشعُر أنينِ أوجاعٍ وتأوهاتٍ فحسب، بل راحَ يطوفُ به في الساحاتِ والمجالسِ والمحافلِ، متوقفاً عند مُنْعَطَفاتِ الزمنِ، يسألُ ويتساءلُ، يُجابِهُ ويتمرَّدُ، يرفضُ ويحاورُ، حتى رَزَحَتْ مُطَوَّلاتُهِ الشعريةُ تحت عبءِ ثقافتهِ وتساؤلاتهِ وقلقهِ وخواطرهِ لِيُصْبِحَ الشِعْرُ معهُ عمليَّةَ بَوْحٍ بما في القلبِ والعَقْلِ معاً:مؤكداً قول:

Blaise Pascal – Le cœur a ses raisons que la raison ne connait point

 

فهو أوَّلاً إِنسانٌ يَبوحُ

وإنسانٌ يُفَكِّرُ، يُعَبِّرُ شِعْراً،

وَيَسْتَشْرِفُ حَضارَةً

وَيَتَفَلْسَفُ كَوْناً

وَيَنْصاعُ ديناً، وَيَعْتَرِفُ صِدْقاً، يَفيضُ شَوْقاً وَشَجَناً، وَيَبْني قِلاعاً شِعْرِيَةً وَفِكْريَّةً اكتَنَزَتْ أَعْمِدَتُها عَظَمَةً وَإِبْداعاً كَأَعْمِدَةِ قَلْعَةِ مَدينَتِهِ بَعْلَبَك،

 

فرنسوا قزّي

الثلاثاء في 14 آذار 2017

_________________________________________________

 

بعلبكُّ القوافي[1]

بقلم الدكتور دياب يونس

 

لَكأنَّ الرشيدَ[2] إذْ وَضَعَ نشيدَ لبنانَ استوحى آلَ حيدرٍ قَوْلَهُ:

“سيفُناوالقلَمْ      سَهْلُنا والجبلْ

                                                       مَنْبِتٌ للرجال.”

فها همُ الحيادرةُ فِتْيانُهم أُسْدُ غابٍ متى ساوَرَتْ لبنانَ الفِتَنُ: أَسيافُهم ذاتُ الفَقار شِفارُها تُقارعُ كلَّ ظالمٍ وغاصب. حناجرُهم إلّا بمجدِ لبنانَ ما صَدَحَتْ. أَقْلامُهم إلّا في محابرِ العروبة الحضاريّة ما غُمِسَتْ. صفوفُهم إلّا في ظلِّ رايةِ الأرز ما حُشِدَتْ. كفاحَهم على وطنٍ وأُمَّةٍ قَصَرُوا. عبقريّاتِهم لِشَحْذِ المواهبِ نَذَرُوا. فَهُمْ في ميادينِ السياسة طلائعُ يَتَقدَّمون. وهُمْ في مجابهة الباطل أوائلُ لا يَنْثَنُون. وكأَنّهم على نَسْجِ مآثرِ الفكرِ وآياتِ الجمال مُوكَلون.

من تلك الشجرةِ التي كلُّ غُصْنٍ منها دوحةٌ، يَنْحَدِرُ سليم حيدر غابةً عذراءَ لفَّاء، حتّى لَيَصُحُّ فيهِ قولُه: ” وأَنْجَبَتِ الشواهينُ شواهينا”، وحتّى لَيَصُحُّ فيهِ قولُنا إنَّه كانَ على موعدٍ مع الشعرِ منذ الرَّحِم.

فما رأيتُ شاعرًا تمتدُّ آفاقُه امتدادَ هذا العبقريِّ لِتَلُفَّ المرئيَّ واللامرئيَّ كلَيْهما بخَيْطٍ قُلْتَهُ لُعابَ الشمس.

وما أَلْفَيْتُ مَنْ عَمُقَ جُذورًا مثلَه في تربة الوطن، وامتصَّ نُسْغَ الأجداد منذُ أوائلِ الزّمَن.

وما شاهدتُ مَنْ ساغَتِ الكلمةُ والفكرةُ والصورةُ سَوَغانَها عنده.

شاعرٌ لم يتوقَّفْ قَلَمُه الصعبُ في غزارته، والأنيقُ في تَدَفُّقِه، على مدى خمسينَ عامًّا، فإذا لهُ ولنا ولأعقابٍ بعدَنا ملحمةُ “الخليقة”، ومسرحيّةُ “أَلْسِنَة الزمان” وتسعةُ دواوينَ[3] روائعَ، ناهيكَ بالمقالات والدراسات والمحاضرات في الأدب والسياسة والاجتماع والقانون وعلم النفس والفلسفة والتاريخ…

قَلَّما عرفتُ شاعرًا يعيشُ شِعْرَه، ويعيشُ لأجل الشّعْر أكثرَ من سليم حيدر. فالشِّعرُ في لحمِه ودمه وتَنَفُّسِه وخَفَقان قلبه، وهو للبثِّ الحميم كما هو لقَصْفِ الصواعق وهزيمِ الرعود. كأنِّي به وَطَّنَ النفْسَ وجَنَّدَ العبقريَّةَ والقلمَ لبناءِ كاتدرائيّةٍ للشِّعر.

الشّاعر الملحمي

وآتَتِ العبقريةُ نحَّاتَنا الأصيل كاتدرائيّةً قُوطيةً شَفَّ زجاجُها، وفَخُمَتْ قِبابُها، وفَتَنَتْ مُخرَّماتُها، وتَمازجتْ ألوانُها، وبَهَرَتْ فُسَيْفِساؤها وتَزَيَّنَتْ مقادِسُها، ونَطَقَتْ تماثيلُها، وتَلَأْلَأَتْ تيجانُها، وتَوَهَّجَتْ مُنَمَنماتُها، وازْدَهَتْ مَنْحوتاتُها، وَتَمَيَّزَتْ بِتمَوُّج الخطوط زخارفُها.

كاتدرائيةُ سليم حيدر التي ترْقى إلى مَنابعِ البشريّة السَّحيقة هي ملحمتُه المعَنْوَنة “الخليقة”.

نَظَمَها ابنُ بعلبكَّ بعلبكَّ قوافٍ في عِمارةِ مُتسلسلةِ الحلقات يُؤَرِّخُ فيها الكونَ استنادًا إلى كُتُبِ الدين والتاريخ والفلسفة وأساطير الأوّلين وإسطاراتهم بدءًا من التكوين وانتهاءً بسقوط بابل، مرورًا بِخَلْقِ آدمَ وحوّاء، وقَتْلِ قايينَ هابيلَ، وطُوفانِ نوح.

تَقَعُ الملحمةُ في خمسة فصول لكلٍّ منها ثمانيةُ أناشيدَ، ولكلِّ نشيدٍ مَقاطِعُ عدّةٌ يتساوى عددُ أبياتها التي تبلغُ أَلْفَيْنِ وسبعمائةٍ وأربعين من الشعر الموزون المقفّى على البحر الخفيف التامّ المتعدِّد القوافي إلى مقدِّمةٍ وخاتمة شعريَّتين في أسلوب فلسفيّ يرتكز على الدين، ويعتمدُ على الخيال في الوصف، ويرمزُ إلى موضوعاتٍ إنسانيّة أزليّة تمثِّلُ صراعَ الخير والشرّ في نفوس البشر، كما تصوِّرُ طبائعَهم وعواطفَهم وغرائزَهم ومطامعَهم ولا سيّما إذ يستيقظُ الوحشُ الكامنُ فيهم؛ كما تُمثِّلُ صراعَ الإنسان مع القدَر.

*   *

*

يا لَها مُجازَفةً خَوَّضَ في غِمارها إلى الفضاء والعدم الخالي فوق مطايا الخيال شاعرنا،فلا أَبِهَ بمخاطرَ، ولا أَقْعَدَتْهُ مخاوفُ!

لاحتْ في وجهه صعوباتٌ، ذَلَّلَها.

بَرَزَتْ له تحدِّياتٌ، بارَزَها، تمالَكَ وصَبَرَ.

أَحْدَقَتْ به التجاريبُ، خامَرَتْهُ الظُّنونُ، استحوذَ عليه الأَرَقُ، إعتراهُ الكُفْرُ، أَكْمَلَ وما لَوى.

كثُرَتْ عليه تَساؤلاتُه:

           كيف كان الفضاءُ؟ أينَ كان المكانُ؟

          خُلِقَ الكونُ! … مِمَّ؟ كيفَ؟ لماذا؟

          مَنْ أنا؟ ما هو الخير؟ما هو الشرّ؟ ما هو الشكُّ؟ مااليقينُ؟ بماذا؟ ولماذا؟ وما هو          المكتوب؟

          حُرَّةٌ في الخِيار نفسي أم أسيرة؟ ما الصواب؟…

فَطَفِقَ يصرخُ من أعمقِ أعاميقه:

            ” رحمةً يا محقِّقَ المعجزاتِ                  هُزَّني فالجمود خَبَّلَ ذاتي

“… ليتَ أنّي أَفُكُّ ما يعقُلُ العقلَ وأَغزو مكامنَ المطلقاتِ”

*   *

*

وعادَ شاعِرُنا إلينا من الأزلِ المسحورِ، من البدءِ المُطلسَم، وقد عَاوَدَتْهُ الحيرةُ السّوداءُ، وتكاثرت على روحه مغاميضُ الأسرار، فَلَمْ يبقَ له من رجاء إلّا الإيمانُ فاعتصمَ بالصلاة وأعلنَ:

” ولَعلّي أعودُ في كلماتٍ      لا تُميتُ الإيمانَ عبر الصلاةِ” ! .”

رَجَعْتَ إلينا، يا فاطرَ“الخليقة” خاويَ الوِفاض، وظَلَلْتَ تتساءلُ وتسألُ عمّا كان يعتريكَ غداةَ رحلتكَ الغيبيّة، فَكُنتَ الخاسِرَ وكُنّا الظّافرين : أَرْوَيْتَ بما رَويْتَ من حوارِكَ الحائر نفوسَنا والعقول، وأضفتَ إلى وَزنِ شِعرِكَ الأوحدِ طائفةً حافلةً من أوزان شعوركَ، وإلى إيقاع قَلَقِكَ والشكوك جمالاتِ الخَلْقِ الشعريّ، يا مُبدع النصِّ العجيب !

فيا شاعري،

تَهُمُّني من “خليقتك”هذهالشاعريّةُ الشفّافة، هذه الدّهشةُ البكْرُ أمامَ معطيات الوجود والوجدان.

تُطربُني نبرَتُكَ النّاعِمَةُ على شجَنٍ، ورومانسيّةُ الأداءِ والعاطِفَةِ لَدَيكَ.

تَسْتهويني كلاسيكيَّتُكَ في صفاء عباراتك وسلامة صياغاتك.

تُغْريني زُخرُفيّتُكَ في تفجير الصُّوَر لآلئَ تسطَعُ حتّى لَنَكَادُ نسمع حفيفَ الكلمات.

يا شاعري، يا مَنْ تمرّستَ بالصعب، وبَلَوْتَ التقادير، أَكْبَرْتُ فيكَ كِبْرَكَ الواثِقَ من نفسهِ ومن سلطان الكلمة، وشُغِفْتُ بهذا التدفُّقِ كالسيل العارم، وكأنّكَ السيّدُ المُطاعُ يتخطّى ذاته بإتّجاه التجلّي.

لقد أنسانا المُشعوذونَ أنّ للأصالة حرمةً فجعلوا في سخافاتهم يَعْمَهون؛ أمّا أنتَ، سليمَ حيدر، فأعجَبُ ما فيكَ أنّك تخلُقُ وكأنّكَ تلهو، وأنّكَ تبدأُ من حيثُ ينتهي سواك، ولا يَروقُكَ إلّا مناخُ القيَم، وأنّ صوتَكَ يرتفعُ صافيًا، ناعمًا، بريئًا، كَرَبابةٍ بَعْلَبَكِّيَّةٍ.

*   *

*

الشاعر الوطنيّ

عادَ شاعرُنا إلينا لِيَزُفَّنا أنَّ البارئَ اصطفى فُسْحَةً سَمْحَةً يَرْغُدُ فيهاالعيشُ وجعلَ منها مِفْرَشَ عرشه، هي أرضُ الخلود، جنّةُ عَدْنٍ، ذلك النعيمُ المخضوضِرُ الذي يمتدُّ من رواسي لبنانَ حتّى حُرُماتِ الفراتِ.

أَحَبَّ سليم حيدر لبنانَه، فهو حُبُّه وحُلْمُهُ وأنشودةُ جمال، وزغردةُ عندليب، ونسائمُ طيوب وتضوُّعُ عبير، وحُورٌ “وناياتٌ جريحاتُ القلوبِ”.

ويفاخرُشاعرُنا السفيرُ بعلَمِ لبنان وقد حَمَلهُ إلى مشارقِ الأرض ومغاربها،

” سلامًا من بلادي وهي حُبٌّ          وحُلْمٌ يَغْمُرُ الدنيا احتسابا

لعلَّ الكونَ يَشفى من جنونٍ             يُرِيْهِ شِرْعةَ الحقِّ اغتصابا.”

ولأنّه أحبَّ لبنانَ هذا الحبَّ كُلَّهُ، راحَ يرسُمَ صورَتَه، يوضحُ مآثرَهُ، ويشخّص أدواءه ويستحضر الأدويةَ من صيدلية الذات. وَطَنٌ حَسَدَتْهُ في تَلَمُّسِ وجه اللّه أوطانُ، في ربوعه تنهارُ تجرِبةٌأرادَها اللّهُ للعالمين أُسْوَةً حسَنةً فإنْيَنْدَثِرْ لبنانُ الحبّ، لبنانُ الرسالة، دُثِرَتْ مآذنُ ونواقيسُ وصُلْبانٌ.

إلّا أنّ بعلبكيَّنا الذي زَلْزلَتْهُ حربُ لبنان، الحربُ على لبنان، في سبعينيّات القرن العشرين، لم يُذعِنْ فانبرى، على بعض مغالاة، يدافع عن وطنه المدمَّر جاعلاً لسانَه له سِناناً، والكلمةَ هدايةً، والتقريعَ إيقاظاً، والتذكيرَ استنهاضًا.

لطالما حَدَّثَ هذا الرّسولُ المترسِّلُ شعبَه، وعلَّمَ الأخلاقَ والمبادئ، وتبدّى واحدًا من أروعِ وجوهِ الحضارةِ اللبنانيّة الفذّة وهو الثّقيفُ العلّامةُ، الطيّبُ الأعراق، الزكيُّ المغرِسِ في ثَرى وفي ثُريّات آلِ حيدرٍ وآلِ بعلبكَّ وآلِ البقاع، وقد أرسى الأوزاعيُّ الإمامُ ابنُ بلدته وبَجْدته في نفسه والذّاكرة مقولتَه الذهبيّة بل السماويّة: لا يجتمعُ حبُّ عثمانَ وعليٍّ إلّا في قلب المؤمن.إنّها مقولةٌ اتّخذناها، ونحنُ بعدُ على مقاعدِ الجامعةِ اللبنانيّة، مبدأً قُدسيًّا أَكمَلناهُ بعبارتنا المُنادية بأنّه “لا يجتمعُ حّبُّ المسيحيّةِ والإسلامِ إلّا في قلبِ اللبنانيّ الحقّ”.ونحنُ في ذلك لا نعدو أن نكون في خُطى الكبير سليم حيدر وهو من أبرزِ آباءِ الفكر السياسيّ في لبنان. فالسليمُ هو ابنُ لبنانَ، فتَى لبنانَ وشيخُه، يتآخى في قلبه وعلى شفتَيه حبُّ اللبنانيين أجمعين حبّاً لا أثرةَ فيه ولا إيثار؛ فيصرخ: “مَنْ يرجمُ المِشعلَ الوهّاج؟” ويتابع:

والدينُ مَنْ شادَهُ سُورًا يفرِّقُنا             ونحنُ في شِرْعَةِ الدينَيْنِ إخوانُ

كُنّا إذا قيلَ، مَنْ لبنانُ، يُطْرِبنا             تَجاوبٌ في الذُّرى: الحبُّ لبنانُ…

أصداء ما تركت في الرّوح، وادعةً      آيُ التسابيحِ: إنجيلٌ وقرآنُ…

وكيف تنهارُ في لبنانَ تجرِبةٌ              أرادها اللّهُ … والإيمانُ إيمانُ؟

وهو ما انفكَّ يعزِفُ أناشيدَ الربّ على أوتارِ رَبابه:

          باركتَ، يا ربِّي، اليتامى بالمسيحِ وأَحْمَدِ       وهديتَ بالإنجيل والقرآنِ خَطْوَ المهتدي

وَسَحَرَني في مسيحيّات سليم حيدر الإسلاميّة  صورٌ وحكاياتٌ وأماثيلُ استوحاها من ميلاد السيّد ليلةً ومغارة:

في “ليلة الميلاد” يصلّي. إلّا أنَّ صلواتِه ليست كالصلوات.

إليكم هذه الشّذَراتِ. نقرأ ولا نعلِّقُ :

          يا يسوع!

          يا رحيقَ الحبّ يسري في الضلوع

          مسلمٌ آمَنَ باللّه وبالتّنزيل واليوم الأخير

          وبنور الوحي في الغار يغيبُ المصطفى، قبلَ السحور

          وبُركنِ الحجر الأسود، والمسعى، وزمزم…

          مسلمٌ يقرأُ وجهَ الليل في أوجاع مريم!

          منذ عشرينَ وخمسٍ في السنين

          سمعتْ في صفحة الإنجيل عينايَ الأنين

          فَغَدَتْ ليلةُ ميلادك لي فَوْعَةَ مِسْك

          كلَّ عامٍ، ليلةَ الميلاد، أَتلوكَ وأَبكي!

وفي “المغارة” التي كان يشيّدها حيَّانُابنُ الشاعر وابنُ الاثنتي عشْرةَ سنةً بيديه الصغيرتين من الورق والدبابيس والأخشاب والأشخاص، مُشِعَّة بالكهرباء، فإذْ أكملَ البناءَ هَرَعَ إلى أبويه مغتبطاً بما فعل.

لَيْتَنا في ندوة حول قصيدة “المغارة” كي نشربَ ونطربَ حَسْبُنا منها، الآنَ، أبياتٌ:

يا ابني، مغارتُك الصغيرةُ حُلْوَةٌ، سَلِمَتْ يداكْ

          فيها الحبيبُ الطِّفلُ وضّاءُ الملامحِ كالملاكْ

          قُلْنا به عيسى النبيُّ ابنُ البتولِ، ابنُ السماءْ

قالوا به أُقنومُ ذاتِ اللّه يأتي للفداءْ

أَنْعِمْ بما قالوا وقُلْنا، إنّه عيسى المسيحْ

غَوْثُ المشرَّدِ، لُقمةُ الجوَعان، عكّازُ الكسيحْ.

ولا يَسَعُني أبدًا أن أَمُرَّ بالبيتِ السّادس ” أنعِم بما قالوا وقُلْنا” فلا أتوقّف على عتبته خاشعًا ومحيِّيًا مَنْ تَنَزَّلَ عليهِ كَوَحْيٍّ ونَطَقَ به كَنبيّ. هاتِ يَمينَكَ، يا سليم حيدر، لِنَرْفَعَها في رِحابِ كنيسة مار الياس في انطلياس، وخُذْ منّا الأفئدةَ لنبنيَ معًا كاتدرائيّةَ الروح، وأَنْعِمْ بما قلتم وأنْعِمْ بما نقولْ.

وأَتْلو مقطعًا آخرَ من “المغارة” فيه طهرٌ وفيه شيءٌ من تَجَنٍّ

          يا ابني فَدَيْتُكَ مسلماً يُحيي مغارةَ بيتَ لحمِ

          بمهارةٍ وطهارةٍ وبساطةٍ من دون فهْمِ

يُحيي ويمتشقُ الحُسامَ غداً بوجه الفاتكِ

عَبَدوا المسيحَ وسلّموا بيتَ المسيح لصالبيهِ

وتحالفوا- يا ويحَهم! – يحمون ساحةَ سالبيهِ.

سليم حيدر،

أيُّها الرجلُ الذي ضاقت دون طموحاته الأرضُ فغزا السماءَ يستطلِعُ ألاغيزَهاوالأحاجي، أيُّها المثقَّفُ من آبار ذاتك، العاكسُ في نفسك مرايا بعلبكِّ القوافي وبعلبكِّ المرؤات، وبعلبكِّ القدّيسين والأئمّة تنهل من أثدائها السخيّة زادَ العمرِ العامرِ عطاءاتٍ،

يا مثالاً كنتَ لنا في تحصيل العلوم والثّقافات في شرق وغرب، فَصَقَلَتْكَ المعارفُ، وغَذَّتْكَ التّجاريبُ، وأوماتْ إليك ربَّاتُ العبقريات، فَعُدْتَ إلى الأهل والوطن عاشقًا عدالةً وقورًا لن نسألَكَ ما عانَيْتَ بِعِصْمتها “وكم ذُقْتُ الصِّعابا“،

عُدْتَ دبلوماسيًّا سفيرًا للبنان، وجهَه الأبهى، صورتَه الأعمق، فأشرقَ لبنانُ على لسانك واحتفى، وباهى لبنانُ بما عطَّرتْ سمعتَك الرياحينُ،

وعندما دعاكَ الوطنُ المهدَّدُ بكيانه لتكون وزيرًا، ثلاثًا، لَبَّيْتَ وعَمِلْتَ وأَنْقَذْتَ، وقلتَللمغريات: غُرّي غيري.

وعندما نالَ من رئيس البلاد وَهَنٌ في غمرة ظلماتٍ فَتَخبّطَ على غير هَدْيٍ، ناشدتَه بقولك الذي تُرَدِدُ فيهِ عبارةَ إمامِكَ وإمامِنا العليِّ عليٍّ بنِ أبي طالب :“كثُرَشاكوك، وقلَّ شاكروك. فإمّا اعتدلْ وإمّا اعتزلْ. والسّلام!”

وعندما كنت محاميًا، تميزتَ بمناقبيّة هي من نَبْعةِ الكهنوت أو سِيَرِ الأئمة. أمّا اجتهادُكفأثارَ دهشةَ الزّملاءِ فغبطوكَ، وأراحَ القضاةَ إذ يتوكأونَ عليه ويطمئنّون. وخطيبًا قضائيًا كنتَ عبقريًا ممّن تتذكرهم قاعاتُ المحاكمات في لبنان وسوريا وتحِنُّ إليهم وتشتاقُهم نسورًا وقشاعمَ.

أمّا الشّعرُ فقد وُلِدتَ عليه، ونشأتَ عليه، ومُتَّ عليه.

أما أنتَ فقلّما وَجَدْنا مَنْ يملأُ الهنيهاتِ مثلَك فترزحُ تحتَ ثِقلِ الجنى.

سليم حيدر،

أنتَ أحدُ آبائنا، وأَحدُ معلِّمينا، وأحدُ نابغينا. تُراثُك ثرٌّ، إرثك ثمين، ونحن بك، بكلّ تركَتِكَ، بالعائلة الحبيبة جميعاً، لفخورون.

 

الدكتور دياب يونس

_______________________________________

[1]ندوة حول الشاعر سليم حيدر، بتاريخ 14 آذار 2017، في الحركة الثقافيّة – انطلياس ، دير مار الياس – مسرح الأخوين رحباني.

[2]هو رشيد نخلة، واضعُ ” النشيد الوطنيّ اللبنانيّ”.

[3]عناوين دواوينه : آفاق – إشراق – أشواق – أشجان – ألوان – لبنان – ألحان – يا نافخَ الثورةِ البيضاء – مهرجان العدالة.

 

_______________________________________________

 

مع الشاعر سليم حيدر في “خليقته”

ــ 1 ــ

.لم يعتدْ هذا الشرق أن يكرّمَ نبغاءه، وهم أحياء، كان يتجاهلهم، وهم يهبونه معنى أن يكون. كانوا لا يموتون يوم موتهم، ويتحولون إلى أضواء تبزغ في الكتب والعقول والقلوب، كانوا يحاولون الدخول في صميم الأشياء، وبفقدانهم كان الشرق يخسر “الرائد الذي لا يَكْذِبُ أهله“، لكيلا يخدعه السراب عن الماء، وتبتعد قوافله عن الينابيع بمقدار اختلاف الظمأ عن الارتواء.

الشاعر سليم حيدر ضوء من أضواء الشرق التي اخترقت ظلمات المساحات الراكدة فينا، وكان ضوؤه كاشفاً يوم كان الوطن مُعرِضاً عن فكره المشتبك مع قضايا الوجود الكبرى، كان سليم حيدر مفكراً عنيداً وشاعراً مُجيداً. نشأ في جغرافية هي توأم الشعر، في بقاعٍ، أعمدة بعلبكه تراهن على موت الموت، وتخاطب الخلود بلسان حجريٍّ مبين تفهمه كل اللغات حين تتهجّى رموز هياكلها، وتستنطق  صمتها المتكلم. نشأ سليم حيدر في رحاب “إله الشمس” يعني إله الضوء، فأغراه هذا الإله بالرؤية والرؤيا، وأغراه بإدمان التحديق خلف الشمس، والذي ينشأ في الضوء لا يمكن أن يصاب بالعمى، لم يشرب الشاعر سليم حيدرماء القرى البعلبكية المتدفقة من شرايين ليطانيها وعروق صنّينها فحسب، وإنما شرب أيضاً حكايا قراها وجمال غيدها اللواتي ورثن من الأعمدة القوام وسحر الحضور وسرمدية الجمال. وعى تفاصيل البقاع وعطاءاته التي امتدت لتطعم روما، قرأ التراث قراءة وجدانية مضيئة فأعطته الحدس المتولد من لمعان الداخل، والشعر في بروقه الخاطفة يتخلص من رقابة الوعي بلمعان حدسيٍّ يومض قبل اللغة الواضحة، وبهذا اللمعان الحدسي يقترب الشعر من النبوة بإيحائها المتولد من صلة الواجد بالموجود، والحدس الداخلي هو الذي يؤسس للعملية الشعرية المبدعة. وهذا لا يلغي العقل حيث يتصالحان في حضرة الضوء كما يتجلى في شاعرية كل شاعر مقتدر. إن صعوبة الرؤيا تتعب الكلمة والتعبير أحياناً كثيرة. أولم يُصعَق موسى في حضرة ربه فخرّ ساجداً، فلا يؤثم شاعرنا أبداً وهو يصرُّ على التحديق بالأعلى، حيث تتعب الكلمة، على الرغم من أنها كانت في البدء، ولمّا تزلْ، لسليم حيدر خاصيته في النسيج الشعري الصياغي سيطرت عليها الفكرة الكبرى، فكرة التجوال بين القلب والعقل، وبين نثرية الفكرة وجلال الرؤيا المغرية بالسفر دائماً إلى اللاهناك. وهذا لا يُقلِّلُ من حضور سليم حيدر أبداً. هذا يجعل منه شاعراً لا يقلِّد إلا ذاته الداخلية الباحثة  باستمرار خارج التأثير الإلحاقي.

وعى الشاعر سليم حيدر التاريخ وعياً ذاتياً حتى لكأنه موجود في كل العصور وسبب ذلك هو توثب وجدانه الممتلئ بالحدس والعقل في آن. إن التاريخ في “خليقة” سليم حيدر له صوت حاضر، حتى لكأنك ترى الحدث وتسمع تفاصيله، وتنفعل به انفعالاً منحازاً لجهة دون أخرى، وهذا الانحياز متولد من إرث أخلاقي شربه الشاعر سليم حيدر من التراث والمجتمع القروي الجميل، ومن عائلة تشرب الثقافة كما تشرب الماء.

ــ 2 ــ

تناولت في محاولتي هذه كتاب ” الخليقة” الذي صيغ شعراً، وتجاوزت بقية نتاجه الوافر لأنه لا يمكن أن يحاط به بمقال في ندوة، وأريد أن أؤكد أن شاعرنا سليم حيدر ليس مؤرخاً، وإنما هو شاعر ومفكر وحكيم، وقد كانت مصادر “خليقته” الأساسية الكتب المقدسة: القرآن والعهد القديم والجديد. ولأن هذه الكتب المقدسة ليست كتباً تاريخية في غائيتها، فقد تناول التاريخ منها تناولاً دلالياً وشعرياً هادفاً إلى توضيح دلالات مسيرة البشرية عبر تاريخها الطويل، وصراع الخير والشر في قدَريّة لا تمكن الإحاطة بغائيتها النهائية، وهو دائماً منحاز للسير على جادة الخير مع تبيان حضور الشر في كل تفاصيل وجودنا الكوني منذ آدم وحتى آخر طفل يصرخ وهو خارج من رحم الوجود. وبدقة وتمعن تحسّ كآبة الشاعر ، وهو يرى الشر مهيمناً عليه في مدارات كثيرة، وهذا أعطاه موقفاً غير موافق على حكاية الشر المستفحلة في الوجود الكوني العابر، ولذا تراه في “خليقته” هذه مشفقاً على الضعف البشري، ومعترضاً على استمرارية انتهاك القيم العليا التي هي غاية المسيرة الإنسانية بين المشيمة والكفن.

في “خليقة” سليم حيدر كان الدم درب التاريخ، وقد حاولت قِيَمُ الأرض والسماء أن توقف غزو الدم للتاريخ، ولكنها لم تستطع، على الرغم من كونها مدعومة بقرار إلهي، فقد جاء في القرآن الكريم: “كتب الله لأغلبنَّ أنا ورسلي” آية 21/ المجادلة. وبتساؤلٍ قلِقٍ راح يستفسر في حضرة الله عن حكمته في تلازم الخير والشر، وهو في أعماقه يرى أن الشر انتصر في التاريخ بالدم وحده، يقول سليم حيدر مخاطباً ربه، وهو يقرر أنّ إيمانه حقيقة دائمة:

ولستُ أشكُّ بأنك أنت الـــــوحيدُ المهيمنُ ربُّ البشرْ

ولكنني ما فهمت لماذا           تأبط آدمُ خيراً وشرْ

ــ 3 ــ

إن شاعرية سليم حيد الحقيقية توجد في ملحمته “الخليقة” التي هدف منها إلى الإسهام الفاعل في رحلة العقل البشري في مسيرته العميقة. وعلى طريقة الملاحم القديمة يطلب سليم حيدر من خياله الحضور ليمدّه بالضوء الكاشف، وهو يستبدل آلهة الأولمب وشياطين عبقر بالخيال الخصب. يقول في مطلع “خليقته”:

مُدَّني يا خيالُ بالإشراقِ    إهْدِني في تجهّمِ الآفاقِ

ويقول أيضاً:

يا مطايا الخيال حُلِّي عقالي     مزِّقي بُرْدَتيَّ فرعاً وأصلا

إسحقيني فتضمحلَّ الهيولى      في كياني وتنصلَ الروح جذلا

وقبله هوميروس طلب في إلياذته التي يعتبرها اليونانيون كتابهم المقدس من ربة الشعر في الأولمب أن تساعده في إلياذته:

ربّة الشعر عن “أخيلِ” بن “فيلا”   حدّثينا واروي احتداماً وبيلا

أما امرؤ القيس فقد أعلن أنه يوحى إليه من شياطين عبقرَ:

تلقنني الجنُّ أشعارها     فما شئتُ من شِعرهنَّ انتقيت

الأعمال الكبرى في الأدب الإنساني تلجأ أحياناً كثيرة إلى قوى غيبية بعيدة عن الإحاطة بها، لتعطي العمل الأدبي صفة الدهشة التي تتولد من غرابة الباعث أحياناً كثيرة، ومن عناصر فنية أخرى لا بد من توفرها في أي نتاج خالد..

ــ 4 ــ

وفي هذه الملحمة نسير مع الشاعر بانجذاب بين رغبات الطين وأحلام الروح التي هي “من أمر ربي”، ولأنها ليست من أمرنا بشراً تلحُّ التساؤلات، وتظل تقرع على أبواب الغيب لاستكناه رحلتها الكونية العجيبة التي لا يفضي العقل بها إلى نتيجة، قال فيها أبونا المتنبي بتمزق حادٍّ وداعياً إلى الانصراف عن إدراك ماهيتها، لأنها ليست من أمرنا، ولأن العقل محدود أمام لا محدودية الكون:

تخالف الناسُ حتى لا اتفاقَ لهم   إلاّ على شجَبٍ، والخُلْفُ في الشجبِ

فقيل تخلصُ نفسُ المرء سالمةً    وقيل تشرك جسم المرء في العطبِ

ومن تفكّرَ في الدنيا ومهجتـــهِ      أقامه الفكرُ بين العجز والتعبِ

وهذا القلق الذي خالط الحمأ المسنون في مشيمته هيمن على القلوب والعقول منذ اللثغة الأولى حتى الغرغرة، لقد حار مفكر كبير وشاعر كبير كالمعري في أمر الروح، وابتعد عن مسالك الوصول إلى كينونتها، لاستحالة ذلك فقال:

أرواحنا فينا وليس لنا بها   علمٌ فكيف إذا احتوتها الأقبُرُ

ويقول سليم حيدر:

لم أعد أشهد الحقيقة في نفســــــــــــي فكيف الشهود في الكائناتِ

ــ 5 ــ

إن الحُجُب المسدلة بين الروح وطينها اللازب جعل أصحاب الفكر العنيد مستمرين في تقصّيهم، إنهم يحاولون، ولكنهم ينهزمون باستمرار، وأروع ما فيهم هزائمهم، لأن هذه الهزائم جعلت العقل الإنساني اقتحامياً لا يؤمن بالتراجع، وكان العقل الإنساني يتشظى ويتمزق كالموج، ولكنه يتجمع ثانية ليشكل موجاً جديداً، وفي ثنايا هذه الأمواج أنتجت البشرية حضارتها، وغزت الوجود ووسعت المجال أمام هزائمها المتكررة، ولكن أضواء العقل التي لمعت في الكتب تحولت إلى فعل إنساني حضاري، يضاهي الخلق وجوداً.

في “خليقة” سليم حيدر يبدو الشك منطلقاً للمسيرة الطويلة، إنه يسير بين ملكوت الضوء الغامر وظلموت الشك الذي يقتلع استقرار الروح ويجعلها تجنف عن طريقها السويِّ في رحلة صراع الطين والروح. شكُّه عميق لدرجة مذهلة، وإيمانه مستوطن في تكوينه. إنّ “الإيمان موجود في الغرائز” كما يرى رهين المحبسين أبو العلاء المعري. ويقول سليم حيدر معبراً عن تناثر كيانه بين ظلموت الشك ونور الإيمان الكامن في تكوين المخلوق:

وفكَّرْتُ فيما وراء الوجود     فآمن قلبي وعقلي كفرْ

الإيمان في الغريزة والتكوين الأول، والشك يستعمر العقل ويحتل مساحاته الشاسعة، وسليم حيدر في هذا التناقض القائم عليه سر وجودنا في رحلتنا الطينية يحاول أن ينتقل من شك العقل إلى قلبه المؤمن عبر إضاءات الحدس، تلك الإضاءات التي  حملها الوجد الصوفي، وعجز عن نقلها إلى الكلمة، كما جاء في مواقف النفري: “كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة”. وعجْزُ العبارة عن نقل الرؤيا ألجأت الصوفيين إلى القلب، وهم هاربون من ظلمات العقل، هناك في القلب أقام الراؤون الكبار، ولكنهم عجزوا في إيجاد أجوبةٍ لتساؤلات العقل القاتمة والملحّة، هذه التساؤلات التي جعلت جلجامش يذهب عبر مياه الموت المظلمة إلى جده “أتونباشتم” في رحلة مضنية، مارّاً بواقعية “سيدوري” وذاهباً إلى قلقه الكوني المستمر والعصيِّ على التلاشي في حواره مع شاماش حين يسأله: “لماذا تحاول المستحيل يا جلجامش، ويجيبه جلجامش إذا كان عليّ ألا أحاول فلماذا خلقت فيَّ هذه الرغبة القلقة؟”.

إن أبا العلاء المعري كان صديق سليم حيدر في “خليقته”، وكأن الشاعر سليم حيدر كان يحمل المعري معه حيث ارتحل، وتحديداً في عمر كتابته “الخليقة”. يقول سليم حيدر معبراً عن ظلمة الرحلة في قصيدة مهداة إلى أبي العلاء:

      من غامض نسعى إلى غامضٍ    فنحن ندنو والمدى يبعدُ

      فهذه الظلمة لا تنجلـــــــــــي      وهذه الجذوة لا تخمدُ

      والفكر إرث العقل مستوضحٌ    يضجّ فيه الجوهر المفردُ

     فكلما أوقـــــــــــــــــد فانوسه       وسار شوطاً أطفئ الموقدُ

     زاغت برقص الآل أبصــاره       وقد نأى عن جفنه المِروَدُ

وقبله قال المعري:

سألت يقيناً يا جهينةُ عنهمُ    ولم تخبريني يا جهينَ سوى الظنِّ

    فإن تعهديني لا أزال مسائلاً   فإنيَ لم أُعطَ اليقينَ فأستغني

كلاهما يحاول أن يرى، ثم يصطدم بسؤال عقله: هل رأيت؟ والرؤية كانت آخر الوسائل لقتل الشك، وقد عانى منها جميع أصحاب المدارك العقلية وأصحاب الأرواح المتلهفة لاختراق الحجاب، وحتى الأنبياء عانوا من محاولة الوصول إلى الرؤية لتصدق الرؤيا. لقد طلب النبي إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى: “وإذ قال إبراهيمُ ربي أرني كيف تحيي الموتى. قال: أولم تؤمنْ. قال بلى، ولكن ليطمئن قلبي. قال: فخذ أربعة من الطير فصرْهنَّ إليك ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزءاً، ثم ادعهنّ يأتينك سعياً، واعلم أن الله عزيز حكيم” البقرة، آية 260. ومثله موسى طلب من ربه أن يرى: ” ولما جاء موسى لميقاتنا، وكلمه ربه، قال ربِّ أرني أنظر إليك، قال لتراني، ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلما تجلّى ربه للجبل جعله دكّاً، وخرّ موسى صعقاً، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك، وأنا أول المؤمنين” الأعراف 143. ومشكلة الرؤية شغلت أصحاب القلوب، يقول مولانا جلال الدين الرومي: “لا تعبدوا حتى تروْا”

وكلاهما، أعني رهين المحبسين وسليم حيدر، كان شكه، رغم قتامته، مدفوعاً إلى الإيمان، أبو العلاء المعري أعلن أنه لا يملك إلا الظن والحدس، والحدس في نهاية النفق هو ضوء، يقول أبو العلاء مستسلماً لصراع الظن والحدس:

       أما اليقينُ، فلا يقينَ، وإنما       أقصى اجتهادي أن أظنَّ وأحدسا

وينتصر الظن فيه أحياناً كثيرة فيصرخ متنكراً لكل إشعاع، مصدره الدين، ويقول:

إثنان أهل الأرض، ذو عقلٍ بلا     دينٍ، وآخرُ دَيِّنٌ لا عقلَ لهْ

يريد أبو العلاء المعري قي هذا البيت القاسي أن يشير إلى قوة الإيمان ورسوخه عند البسطاء، وإلى التنكر القاسي أيضاً المتولد عن تقصي العقل، وانهماكه في التعليل الماورائي، الذي هو خارج العقل تماماً. وقصة الرازي معروفة مع تلك المرأة العجوز، وكان الرازي يسير بين تلاميذه، وهم يكتبون كل ما يقوله، ورأت امرأة عجوز هذا الموكب، فتقدمت من أحد تلاميذ الرازي، وسألته: من هذا الشيخ؟، فأجابها تلميذ الرازي: هذا الذي أقام على وجود الله ألف دليل ودليل. فقالت العجوز: والله لو لم يكن في قلبه ألف شك وشك لما أقام ألف دليل ودليل. وحين نقل التلميذ إلى الرازي ما قالته المرأة العجوز قال: اللهم إيماناً كإيمان العجائز.

ورغم قتامة شك أبي العلاء فإن قلبه يعود لينبض بحتمية وجود مدبر لهذا النظام الكوني اللانهائي، وهذا الشك يعود ليقدح على زناد الحدس فيقول:

     خُلِقَ الناسُ للبقاء فضلَّتْ      أمةٌ يحسبونهم للنفادِ

     إنما ينقلون من دارِ أعما      لٍ إلى دار شقوةٍ أو رشادِ

ثم يعود ليقرّ بالدين تعبيراً عن حدسه الرائي، فيقول:

دعاكم إلى خيرِ الأمورِ محمدٌ      وليس الأعالي في القنا كالأسافلِ

وهذا الشك الحادس يرافق، بل ويلاحق الشاعر سليم حيدر من بداية  ديوانه “الخليقة” إلى نهايته. إنه يغلق ديوانه في آخر شكِّه ووميضه، كصديقه رهين المحبسين تماماً، يقول الشاعر سليم حيدر:

عدتُ من رحلتي كأنيَ لم أرحلْ فقلبي ما زال يهوى خفوقهْ

        قلقي واستكانتي واعتـــلائي      وامتشاقي تساؤلاتي العتيقةْ

        بيدَ أني ملأتُ كأسيَ حلْـــماً      سأظلُّ الحياةَ أحسو رحيقهْ

        ما ألذَّ الأحلام تلمع في النفــــــــــس خيالاً وتستقرُّ حقيقــــةْ

البيت الأخير يضمر عذاباً وتمنياً إشراقياً، لو حصل لارتاح صاحبه من ملاحقة الشك القاتم واليقين القلق. إن مناقشة الأسباب والبواعث غير مجدية، حتى الأنبياء لم يلجأوا إلى مناقشة قدَرية الكون، كما يرى سليم حيدر:

         آية الأنبياء في القدر المحتوم ألاّ يناقشوا في البواعثْ

لقد تأثر سليم حيدر بأبي العلاء المعري تأثراً كبيراً حتى لكأنهما الشيخ ومريده، ولعل إعجاب الشاعر سليم حيدر  بالمعري متأتية من موقف متقارب من قضابا الحياة الفكرية والروحي، ومن هيمنة الشك. وكما شكا أبو العلاء من جناية أبيه عليه:

هذا جناهُ أبي عليّ  وما جنيتُ على أحدْ

شكا مثله الشاعر سليم حيدر:

          يجني على الأبناء آباؤهمْ   في غمرةٍ يشقى بها الأسعدُ

ـــ 6 ــ

والقلق المسيطر على عقل سليم حيدر مصدره الشك، ولأن الشك قاتم فقد تفرع منه احتجاج قاسٍ على عدم استقرار عقله على وسادة قلبه، وراح يجهر بما لم يحط به علماً، وهذا الجهر بما يعتمل في ذاته كان متسماً بجرأة عالية، فيها عتاب ومرارة، وفيها أنسنة الله في الإنسان، لقد بدأ يسأل أسئلة تدل على ريب وشكًّ بالفعل الإلهي المتوخى من الخلق، إنه يناقش ربه على لسان إبليس، الذي يعتبر نفسه غير مسؤول عن ناريّته الطاغية، والتي يصيب سعيرها أبناء آدم، وقد صاغ سليم حيدر هذا الاحتجاج الرجيم بتساؤلات الرجيم نفسه:

       أنت كوَّنتَني جبلتَ من النــــــــــــار مزاجي سكبتَ فيَّ الأذاةَ

       ثمّ أطلقتَني أغرِّرُ بالإنــــــــــــــــس وحذَّرْتَــــه النجاةَ النجاةَ

       أيَّ شيءٍ جنيتُ. غَيِّرْطباعي     وِجْهَةَ الخيرِ أو أحلني مواتا

في هذا الاحتجاج تساؤلات تثير قلقاً، مرده الحيرة، وليس استجابة لمنطق إبليس، رمز الشر المسكوب في ناريته، والذي يبعث القلق أكثر أن الله جعل الشيطان من “المُنظَرين” بعد جدل وكلام بينهما، إن أبدية وجود إبليس تكمن فيها مأساة الإنسان الذي ظل محكوماً بهذه الثنائية، ثنائية الخير والشر. والمثير أسئلة أكثر أن الله جعل إبليس من المنظرين إلى يوم يبعثون، وهو رمز للشر وإقراره بذلك، وهو يكلم ربه، وإعلانه العصيان كان ناتجاً من قهره وانسحاقه أمام القوة الكبرى، ووجهة نظره أنه هو أفضل من آدم المصنوع من حمأ مسنون، وفي القرآن الكريم: ” قال ما منعك أن تسجد إذ أمرتك، قال أنا خير منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين، قال فاهبطْ منها فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرجْ إنك من الصاغرين13 قال أنظرني إلى يوم يبعثون14 قال إنك من المنظرين 15 قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم16” سورة الأعراف. هذا الجدل لمّا يزلْ يملأ الوجدان الإنساني بالقلق والأسئلة الصعبة، ولعل أجوبتها أبعد من مداركنا، والذين حاولوا فلسفتها ظلوا مطارَدين بأسئلة لا تشبع من الإلحاح، بل هناك من وقف مبيناً قدرة القهر حين يسطع بناره وحين يستباح بلعنة أزلية. يقول المفكر الفرنسي جان بول سارتر: “إن الشيطان المقهور، الساقط، المذنب، المفضوح من قبل الطبيعة كلها، القابع في الدرك الأسفل من مراتب الكون، المرهق بذكرى الغلطة التي لا كفارة عنها، الذي تتآكله صبوة غير مشبعة، والذي تخترقه نظرة الله التي تحجره في ماهيته الشيطانية، المرغم على أن يتقبل حتى في أعماق قلبه بتفوق الخير، إن الشيطان هذا ليتغلب على الله نفسه، سيده وقاهره، بألمه بتلك الشعلة من عدم الرضى الحزين التي تلمع، في اللحظة التي يقبل فيها بهذا الانسحاق بالذات، كتوبيخ لا تكفير عنه. إن المقهور هو الذي ينتصر في النهاية”  جان بول سارتر في كتابه/ بودلير شاعراً/ ترجمة جورج طرابيشي.

فالجدل عالي النبرة، ومصحوب بأسئلة حادة لم يستطع عقله أن يجد لها جواباً، يقول شاعر “الخليقة” سليم حيدر مخاطباً ربه:

سئمتَ على عرشك المطمئن     فراغ الوجود وعقمَ القدرْ

       وقلتَ لها يا شقيّةُ كونــــــي      فكانت وكان الصفا والكدرْ

       وقلتَ: جنانٌ لأهل الصلاح      وللفاسقيـــــــــن جحيمُ سقرْ

       فماذا تريد بهذا الحساب        وماذا يريد بنا المنتظرْ

       ونحن أتينا لأنك شئتَ          ورحنا وليس لدينا خبرْ

       أما كان يا ربِّ أشهى وأبهى    وأسلمَ ألاّ يكون البشرْ

هذا القلق المحموم والتساؤلات الملحَّة، وعدم انتصار الحق في معظم حلقات التاريخ البشري جعلت القلق سوداوياً في شعر سليم حيدر، ونتيجة لهذا سيطر كثير من التشاؤم على مفاصل “خليقة” الشاعر سليم حيدر. إنه يرى الشر متصلاً من آدم إلينا، يقول:

        لعنة اللهِ لم تقف عند قايينَ   بل الكون كلّهُ ملعونُ

وكثير من الشعراء والمفكرين رأوا أن الظلم طبيعة مخلوقة مع الإنسان، يقول المتنبي:

     والظلم من شيم النفوس فإن تجدْ   ذا عفَّةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ

ومثله يقول عمر أبو ريشة:

      والظلمُ في النفس لا يُروَى له نهَمٌ    لو لم يجعْ فوق نهديها لما فُطِما

إن النفس البشرية لها طقوس وأنواء كالطبيعة نفسها، حيناً تعصف فيها الشكوك إلى درجة لا تمكن إزاحتها، وحينا تلمع فيها بروق اليقين، فتشرق بإذن بارئها وتصبح صافية، وهذه الحالات مرّ بها الأصفياء والأولياء، فهذا هو المسيح الآتي من روح الله، يسأل أباه وهو على الخشبة: “لماذا تركتني؟”. وعلى الرغم من هذه النظرة السوداوية يستنهض الشاعر سليم حيدر النفس الإنسانية لترقى وتصفو وتشرق حتى وهي محاطة بالظلمات، وهذه هي رسالة الأديب الملتزم بقضايا الإنسان العليا، وقتها يصبح الإنسان قسيم الله في وجوده، يقول سليم حيدر:

          أن نرى النور في دياجير نفسٍ    ملأتها الخطيئة البكرُ شينا            

لقد مر أصحاب الأفكار العالية بصحراء القلق، ولكن شعارهم كان دائما عدم اليأس لوثوقهم بالصانع الأمهر، يقول علي بن أبي طالب: “من وثق بماءٍ لم يظمأ“، ومرحلة الشك التي لم تطفئ النور مر بها كثيرون. قال صاحب الطلاسم، إيليا أبو ماضي، ولكن عدم إدراكه لم يقده إلى تلك الأسئلة المقهورة:

     إنّ في صدريَ يا بحرُ لأسراراً عجابا/ نزل السترُ عليها وأنا كنت الحجابا/

    ولذا أزداد بعداً كلما ازددت اقترابا/ وأراني كلما أوشكت أدري/ لست أدري/

وقبلهما كان عمر الخيام يغوص في ضباب معرفة المجهول الذي عجزت الأفكار عن الإحاطة به بسبب لا نهائيته، فراح يعاقر الخمرة ليطفئ لظى هذه التساؤلات التي لا أجوبة لها، يقول عمر الخيام/ ترجمة أحمد رامي:

لبستُ ثوبَ العيشِ لم أُستَشَرْ    وحرتُ فيه بين شتّى الفِكَرْ

     وسوف أنضو الثوبَ عني ولم    أدركْ لماذا جئتُ أين المفر!!

القلق الحاد في شعر سليم حيدر ظل يقرع على أبواب الله، على الرغم من أنه كان يقرع بقبضة مثخنة بكوامن نفسه التي التمعت في شعره عبر غيوم كثيفة. إن أسرار الكون ليست مرتبطة في لا نهائياتها بقوة العقل ونضجه. إنها قدرية غير خاضعة لما يحدس به العقل الإنساني المحاط بهياكل من الطين العازل. إن قدرية “لست أدري” هي آخر قرع على أبواب الغيب.

ــ 7 ــ

ولكن كل الذين حاروا في تفسير لغز الكون ظلوا خاضعين ومنجذبين لتأثير تلك القوة العصيّة على التفسير والإحاطة بها. فقد قرأنا لرهين المحبسين رغم مناطق الظلام التي عبر فيها في عمره الترابي: أن البشر ينقلون من دار أعمالٍ إلى دار شقوة أو رشاد. والخيام لم يشرك بوحدانية الله، وكذلك سليم حيدر، لأن تقصي النفس مجهولاتِ الكون تجعل الإنسان يدرك سعة الكون، وفي هذه السعة لمعان ووميض لحالات غير مفهومة، تقذف في القلب عقلاً له صفات القلب يحس، ولا يحيط، تماماً كما حدث مع موسى عندما تجلى ربه للطور وخرَّ موسى صعقاً. والإقرار بهذه الذات الإلهية تبقى مهيمنة حتى على الأرواح التي خذلتها الذات الإلهية، وتركتها  تعاني قدريتها بانسحاق كلي، كالمسيح مصلوباً. إنه لم يتخلَّ عن تلك الأبوة التي تركته ينزف روحه من جراحه. وكذلك النبي يونس الذي كان يصرخ، وهو في جوف الحوت: “سبحانك، إني كنت من الظالمين” سورة الأنبياء/ آية 87 . الخوف لا يصنع الإشراق في النفس القلقة، وإنما اليقين المصنوع من الضياء الذي يلاحق قطع الظلام في النفس فيبددها. يقول سليم حيدر:

      ربي سألتك بالجمال محبَّباً في كلِّ فنِّ

    وبسرِّ ما ألقيتَ من عِبرٍ على إنسٍ وجنِّ

    وبما أمرتَ وما نهيتَ وما يريد الحقُّ مني

    لا تُبْعِدَنِّي عن هواك وأبعد الشيطان عني

الشيطان هنا ماثلٌ بمحاولاته الجافة والدائبة وبإغراءاته العقيمة لصرف سليم حيدر عن التحديق بضوء قلبه المؤمن. واضح بما لا يقبل الشك أن الشاعر سليم حيدر قلبه مطمئن بالإيمان، وهو غير مكرَهٍ بذلك، وليس من فئة الشخص الذي نزلت فيه الآية الكريمة : “إلّا من أُكرِهَ، وقلبُه مطمئنٌ بالإيمان”. وعقله يبحث في ماهية الكون، وأخيراً أقامه عقله “بين العجز والتعب” كما يقول أبونا المتنبي. والشك هنا لا يلغي الإيمان فقد وصل بالغزالي إلى تخومٍ قصيّة، ولكنه ظل يحاول إحياء علوم الدين بفيض شعوري وضّاء. والشك قاد الخيام إلى إضاعة الطريق، ولكن ليس إلى إضاعة الضوء الذي ظل قنديل رباعياته وخمرياته الخالدة، والشك قاد إيليا أبا ماضي إلى “لست أدريه” المعبرة عن قلق العقل وإضاءة القلب في تلك المسالك العذراء الوعرة، والتي ظل الضوء فيها يغري بالتقصي.

هذا التعب الحيدري هو مضمار شاعرنا المفكر سليم حيدر، الذي قضى معظم سنيِّ عمره بحثاً عن سرّ “الخليقة”. وهذه الإقامة التي ألزمته ما لا يلزم جعلته اللصيق الروحي لصديقه الأثير رهين المحبسين أبي العلاء المعري، وأعتقد، بمفهوم الزمن الافتراضي، أن الشاعر سليم حيدر لو كان معاصراً رهين المحبسين لأخذه معه في “رسالة الغفران” بديلاً لـ”ابن القارح”، وطاف به هناك في الجنة والنار نائياً به عن إغراءات الجنة ورهبة النار ليحاولا معاً تفسير بعض أسرار هذا الكون المغلق.

ــ8 ــ

أريد أن أشير، في نهاية هذا البحث المختصر في شاعر قضى نصف قرن من عمره باحثاً عن أسرار خليقته، إلى نقاط أعتبرها جديرة بالتبيان في هذا اللقاء التكريمي لشاعر مفكر استطاع أن يقف بين الخالدين بعقله وفكره، وهي:

1 ــ إن تفكير الشاعر سليم حيدر في كتابه “الخليقة” هو تفكير إيمانيٌّ بعيدٌ عن الحصرية الدينية في اتجاه معين، لقد اعتمد في تقصّيه وبحثه على القرآن الكريم وعلى العهد القديم والعهد الجديد، وعلى ثقافة تراثية خصبة، غسلت فكره من كل أشكال التعصب التي تعصف بالمجتمعات المغلقة، ونحن اليوم بحاجة ملحّة لفكر كهذا ينتشل مجتمعاتنا الغرقى في وحول المذهبيات والطائفيات، التي “أودعتنا أفانينَ العداوات” كما قال رهين المحبسين. سليم حيدر كان أفضى وأوسعَ من أن يتعصب، وهو الرائي المتطلع إلى “رب العالمين”، وليس إلى رب فئةٍ دون أخرى.

2 ــ القلق العقلي المستبد بشاعرنا لم يبرحْه أبداً، وكان دائماً يهرب إلى قلبه المؤمن كلما عصف به القلق. وقلقه أدى إلى تساؤلات كبيرة، وهو يسائل خالقه لماذا: “تأبط آدمُ خيراً وشر”. وصل الشاعر سليم حيدر إلى التسليم بعجز العقل، وهذا العجز كان من أهم أسباب استمراره في التساؤل والنقد، وهو كأوكتافيو باث متيقن أن الزمن الحديث “هو زمن نقدي”. والحداثة تنتفي من أي زمن إذا لم يكن نقدياً. وأعتقد أنه كان يسعى دائماً لإقامة صلحٍ بين العقل والنقل، ولكنه لم يستطع . وهذا شأن المفكرين الكبار. يقول سليم حيدر حائراً ومتسائلاً مقرَّاً بعجز العقل عن إعطاء الجواب النهائي:

     ما عسى تحملُ العصور الخوالي    من عظاتٍ إلى العصور الأواتي

     الجوابُ البليغُ يبقى افتراضاً       ويزوغُ الكلامُ في الإثباتِ

3 ــ سليم حيدر في “خليقته” مشفقٌ على الضعف البشري، ومتضايق جداً لانتصار الشر على الخير في معظم مراحل التاريخ، وقد ابتدأ هذا بقتل قابيل أخاه هابيل. ومن يومها إلى اليوم “والظلمُ من شيم النفوس“. هذا الواقع ملأ سليم حيدر حزناً فظهر ضباب الكآبة في نتاجه انحيازاً للضعفاء، وأملاً بتحقق الآية الكريمة: “كتب اللهُ لأغلبنَّ أنا ورسلي”.

4 ــ وأخيراً أريد أن أقول إن التزام الشاعر سليم حيدر بالسرد التاريخي جعله في شعره يهتم بالفكرة أكثر من الصياغة. وهذه سمة من سمات السرد التاريخي الذي يجبر الشاعر على الاهتمام بالحدث الدالِّ أكثر من الاهتمام بالصياغة الفنية للشعر. وهنا لا بد من أن أعتذر من شاعرنا سليم حيدر، وأؤكد أن هذا لا يقلل من الأهمية الكبرى لكتاب ظل يصوغ أفكاره ما يقارب نصف القرن. إن هذا القول يجعلني أتصور من سيقرؤنا بعد رحيلنا من هذه الفانية ناقداً لنا راحماً وقاسياً ومنصفاً وظالماً، وأردد المثل الشعبي الذي بدأ فيه أديبنا الكبير ميخائيل نعيمة كتابه  “الغربال”: “من غربل الناسَ نخلوه” ولا أريد أن أردد مع ميخائيل نعيمة نفسه قوله: “الناقد كالدجاجة التي تُقَوْقئُ كلما باضت جارتُها”. لأني أؤمن أن الناقد الجيد والمنصف هو خالق آخر للنص الأدبي الذي ينقده.

وأقول أخيراً: علينا أن نُيَسِّسر لأطفالنا وناشئتنا قراءة الشاعر سليم حيدر لعمق تفكيره وإيمانه بوحدة الإنسان الروحية المتنوعة المسالك في الوصول إلى بارئها. إنه من رواد الإصلاح الفكري، وهذه أهم صفة من صفات الالتزام الأدبي التي يجب أن تتوفر في كل مفكر وأديب وراءٍ. وقتها يصبح النتاج الأدبي جزءاً من النبوة ومكملاً لها. وفي النهاية أردد مع شاعرنا المفكر، والذي كان بلهفة يتمنى إشراق روحه الدائم واختراقها المبهمات:

      ليت روحي تمسُّ عيني فتزهو     في حنايا بصيرتي الأضواءُ

      وتنير المعمَّياتِ لذهني              في اتساقٍ ما شابَهُ إقواءُ

      فأعبُّ الوضوحَ من نبعه الصــــــــافي وتُجلى أماميَ الأسماءُ

 

عمر شبلي/الصويري

26/2/2017

 

Exit mobile version