بدر شاكر السَّيَّاب والخطابُ الشِّعريُّ التَّشاؤميُّ
د. شربل ميلاد تـومــا *
أبــصَــرَ بدر شاكر السَّيَّاب النورَ، حاملًا معه آلامَه، خصوصًا أنَّ أُمَّه فارقَتِ الحياةَ، وربَّما يكون الدَّهرُ قد أحكَمَ قبضَــتَه على طفولتِه الجميلة، وحوَّلَـها إلى طفولةٍ حزينة، إذ يحيا في غفوَةٍ ذاتيَّة، ويفيضُ على روحِه قبسًا مِنْ عفـويَّةٍ، حتَّــى بِتْــنــا نرى فيما بَعْدُ، أنَّه يُعانــي مِنْ غربةٍ نفسيَّة حادَّة: الغُربةُ الأُولى هي الأصلُ، بينما الغربةُ الثانيةُ هي البَحثُ والانتظارُ.
ولعلَّ مِحنــتَــه الذاتيَّة النَّابعة من الواقع الأليم في عهْدِ الطُّفولة، والجوع، والقحْط، والشَّقاء، والوجود التَّــعِس، جَعلَتْه يتأثَّر -فيما بَعْد- بأسلوب الشَّاعر الإنكليزيّ “توماس ستيرز أليوت” THOMAS STEARS ELIOT تحديدًا بالإيقاع الدَّاخليّ الذي يُحقِّقُه التركيبُ اللغويُّ ذو الـجرْس الموسيقيّ الدَّافق، وخصوصًا في قصيدتِه “الأرض اليباب”([1])، بحثًا عن نفسه، إذ تجسِّدُ ما يُعانيه السَّيَّابُ من قلق وارتياب وتشاؤُم فرديّ.
ويَظهَر في قصيدة “رؤيـــا”، حيث نرى الآلهة “عشتار” مصلوبة ً ومُسَمَّرةً على شجرة. ويصرِّح بدر شاكر السَّيَّاب نفسُه أنَّ للشاعر الإنكليزيّ “أليوت” أثرًا كبيرًا على “الشِّعر الملتزم في الأدب العربيّ الحديث”([2]).
ويبدو أنَّ حياتَه الشَّخصيَّة، واتِّـجاهاتِه النَّفسيَّة، وأفكارَه السِّياسيَّة، وأبعادَه الاجتماعيَّة، لها تأثيرٌ في تحديد رؤياه الشِّعريَّة. هذا فضلًا عن أنَّ نتاجَه الأدبيّ الغزير، مَرَّ بمراحل عدَّة تراوحَ بين مرحلة الطُّفولة الحزينة، وموتِ أُمِّه وزواجِ أبيه من جديد، إذ لَــمْ يرضَ به السَّيَّابُ على الإطلاق، جَلْدًا للذات من أجل إثباتِ الحضور، ناهيكَ عن مرحلةِ الفشَل العاطفيّ في يفَعِ الشَّباب، ومرحلة الواقعيَّة الاشتراكيَّة، والرموز التَّمُّوزيَّة وتمثُّلاتـِها الأسطوريَّة، وأبعادهـا المأساويَّة المتحرّكة بين الحياة والموت فالانبعاث، إذ إنَّ التجربة الشِّعريَّة ” في الأرض اليباب” تُوحي بإمكانيَّة انفراج الأزمة و”عودة الخِصب”([3]).
ونتوكَّــأ في هذا البحث على قراءةٍ في الأسلوبيَّة بوصفها مَنهجًا، ما يعني أنَّ المنهجَ الأسلوبـيَّ قائمٌ على علامة لُـغَـويَّــة Signe Linguistique، تماشيًا مع عِلْم النَّفس اللغويّ Psycholinguistique إذ إنَّ استقصاء “ملامح الأسلوبيَّة عن الفاعل القرائـيّ”([4])، لا يتمُّ إلَّا من خلال متابعة مؤهَّلات المنهج، ومدى علاقتِه بـمِزاج القارئ، تأويلًا تقابُليًّا، ورؤيا روحيَّة، وتحليلًا إجرائيًّــا، ناهيكَ عن جدليَّة الـمُثلَّث التَّعبيريّ القائم على طبيعيَّة الدَّالّ الماديَّة، وإيحائيَّة المدلول الغائبة، وفعاليَّة المرجِع الاستحضاريَّة. ولـمَّــا كانَتِ القراءةُ الفاعلة في الأسلوب تُـتيحُ بشكل أو بآخَر ثراءَ الانزياح، فهذا يعني أنَّها ترسمُ حدودًا معياريَّة تغييريَّة خصوصًا في التراكيب النَّحْويَّة للجملة الشِّعريَّة. وإذا كانَ النَّصُّ السَّيَّابـيُّ لُـغة ً، فإنَّ التَّــواشُحَ بين مستويات النِّظام اللغويّ، ومستويات الأداء الأسلوبـيّ ينهضُ على حضور غائب للحالة الشِّعريَّة، وغيابٍ حاضر للتَّأويل الإبداعيّ.
ولَـمَّـا كانَ الفنُّ هو أنْ تُـعَبِّـرَ وليسَ أنْ تبوحَ، فهذا يعني أنَّ التعبيرَ هو الـخَلـقُ والإبداع من عدم. وعندما نتعرَّض لظاهرة النَّزعة التشاؤميَّة في الخطاب الشِّعْريّ السَّيَّابـيّ، ندركُ إلى حدٍّ بعيد أنَّه يُعاني أزمة الفَــقْــر الـمُدقِع، إذ ينطلِقُ من شعور مُزدوِج بالتَّحدِّي والكفاح، ما يدلُّ على أنَّ هذا النَّوعَ من الشِّعر فاضَ فيْضًا روحيًّا في قصائدِه، ومِنْ ثَــمَّ فإنَّ المعنى
* أستاذ مُحاضِر في الجامعة اللبنانيَّة كليَّة التربية –الفرع الأوَّل
[1]- شاهين، محمود، أليوت وأثره على عبد الصَّبور والسَّيَّاب، المؤسَّسة العربيَّة للدِّراسات والنَّشر، بيروت، ط1، 1992، ص23.
[2]– السَّيَّاب، بدر شاكر، الأدب العربيّ المعاصر، أعمال مؤتمر روما، منشورات أضواء، بيروت، ط1، ت1، 1961، ص 248.
[3]– رزُّوق، أسعد، الشُّعراء التَّموزيُّون- الأسطورة في الشِّعر المعاصر، دار الحمراء، بيروت، ط2، 1990، ص 18.
[4]– غرقان، رحمن، الأسلوبيَّة بوصفها مناهج، الدَّار العربيَة للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2014، ص15.
الحقيقيّ للغربة الرُّوحيَّة السَّيَّابيَّة قد تكونُ مَحضَ أداةٍ في يدِ الواقع القاتِم، الذي يتحدَّث عنه “هوسرل” في كيفيَّة “الوعي الدَّاخليّ للذات وللزمان”([5]). هذه النَّزعة قد تعود إلى الظُّروف الاجتماعيَّة القاسية التي أحاطَتْ بالسَّيَّاب وهو يَــافـعٌ، حيث كانَ مُكرَهــًا على مُغادرة وطنِـه الجغرافـيّ، ومن ثَمَّ كانَ يشعرُ بالانكسار والحنين، والغربة الرُّوحيَّة. وهكذا، كان مَنفاه ينمو من الدَّاخل الـمُتصَوَّر، وليسَ في الخارج الـمَلحوظ، على أنَّ “الـمُحاكاة غريزةٌ في الإنسان تظهَرُ في عهد الطُّفولة، وبها يكتسبُ معارفه الأوَّليَّة” ([6]) بحسب تعبير أرسطو؛ إذ إنَّ الـمنفى السَّيَّابـيَّ ليس مسألة جغرافيَّة فحسْبُ، بل رؤيويَّة يبتكرُها في ما وراء الـمنفى الذِّهنيّ الـمُتصَوَّر، والسَّفر الرُّوحيّ الـمُعاش، حتَّى إنَّه يقيس نفسَه بصيغة الجماعة؛ لأنَّه غريبٌ عنها وفيها. وهذا ما نراه في قصيدة “يا غربة الرُّوحِ”:
” يـــا غُربَة َ الرُّوحِ فـي دُنيا مِنَ الـحَــجَرِ
والثَّلْجِ والقارِ والفولاذِ والضَّجَرِ
يـــا غُربَة َ الرُّوحِ، لا شَمسٌ فأئتَلِقُ فيها ولا أفُقُ
يَطيرُ فيه خيالي ساعة َ السَّحَرِ
نارٌ تُضيءُ الـخُواءَ البرْدَ، تحترقُ
فيها الـمَسافاتُ، تُدنينـي بِلا سَفَرِ
مِنْ نَـخْــلِ جَيْكورَ أجْني دانــيَ الثَّمَرِ” ([7]).
انطلاقًا من سيميائيَّة العنوان نتلمَّسُ مضامينَ روحيَّة عميقة، تنطلق من مفهوم الفراغ، لتصِلَ إلى مفهوم أُفُـقِ التَّوقُّع، الذي يتمثَّلُ في “المنهج الأدائيّ” ([8])، وفي حقلِ المقروئيَّةِ لآليَّاتِ التَّأويل، وما لها من دور وظيفيّ في جماليَّة التَّلقّي. ونعثُر في هذه المقطوعة الشِّعريَّة على مجموعة من الثنائيَّات الضِّديَّة التي تجمع بين “الثَّلج والنار”، ليصوِّرَ اتِّساعَ “غربة الرُّوح”.
وبما أنَّ التحليلَ البنيويَّ يقتضي انتقاء دالّ مُعيَّن، فهذا يعني أنَّه يجبُ النَّظر في بدائل هذا الدَّال المنتقى، ما يدلُّ على أنَّ الإشارة “شمس” لا حدودَ لها، وترمز إلى الأُلوهة الكونيَّة، وتُـمَثّـلُ دورًا توسُّطيًّا بين حركة الغربة إلى مكانٍ عُلويٍّ مُتوهَّم، وبينَ حركةِ الانتظار في مكان مرئيّ.
ولـمَّا كانَتْ غربة السَّيَّاب مَنفى، فهذا يعني أنَّ سَفَرَهُ انتظارٌ، إذ يصيرُ انتظارُه ضياعًا لا مُتناهيًا، يُجسِّدُه السَّيَّابُ في تنظيم بنيويٍّ يقوم باستنطاق المعنى لشبكات المؤوَّلاتِ والأنساق. ولما كانَ مُؤَدَّى “الـمنهج الأدائيّ” عند الفيلسوف “وليم جيمس”، يكمنُ في الانفعال، فهذا يعني أنَّه شعورٌ بحالةٍ جسديَّة “براغماتيَّة” تداوليَّة في المعرفة الـمُتَّصلة بالإدراك العقليّ. تُرى، أينَ ومـتــى وكيفَ تشكَّلَتْ هذه الغربةُ السَّيَّابيَّةُ ؟ طبْعًا، لَــمَّــا كانَ الـحَـيِّزُ الاستفهاميُّ المكانـيُّ “أينَ” يدلُّ على الغياب والانشطار، فهذا يعني أنَّ الـحَـيِّزَ الاستفهاميَّ الزمانـيَّ “مَـتـَـى” يدلُّ على الإلحاح والإصرار. أمَّا الـحَــيِّز الاستفهاميّ “كيف” يدلُّ على الترقُّب والانتظار. نستدلُّ من هذا الـمُثَلَّث لإيقاع “الأنـــا” في الزمان والمكان على أنَّ الغربة الرُّوحيَّة، تُنافِسُ الغيابَ بكلِّ أبعاده الوجوديَّة الـمُتشائمة، حتَّى تُكوِّنَ الأشياءُ علاقة أصواتٍ، كانَ يأنَسُ بـها، أو علاقة
[5]– هوسيرل: ( 1899- 1938): مُؤسِّس الظاهراتيَّة التي تقوم على التَّجارب والوقائع.
[6]– طاليس، فــنُّ الشِّعر، ترجمة عبد الرحمن بدوي، مكتبة النَّهضة الـمِصريَّة، القاهرة، 1953، ص 12.
-[7] السَّيَّاب، بدر شاكر، الأعمال الشِّعريَّة الكاملة، م1، دار العودة، بيروت، 2000، ص 660.
[8]– كامل، فؤاد، الموسوعة الفلسفيَّة الـمُختصَرَة، مكتبة الأنجلو مِصريَّة، 1963، ص131.
ارتباطٍ وثيقٍ بشجرة ِ نخيلٍ في ضوءِ القمر، كانَتْ قد نــمَتْ على عينَيه في “أفياء جَيكور”، التي تمثِّل “الصَّفاء والبراءة والفطرة والعالَم الآخَر“([9]).
1- إيقاع “الأنــا” و “الآخَر” حَــيِّــــزٌ مُنقِسمٌ:
إنَّ الإدراكَ السَّيَّابــيَّ “للأنــا” الـمُنقسِمَــة على ذاتِــها إلى الدَّاخل والخارج، يتصارعُ في حالةٍ مُزدوجةٍ تعيشُ حالاتٍ مِنَ القلَق والـخَوف والذُّهان والرُّهاب؛ خصوصًا في مجموعة من القصائد التي سَمَّاها “جيكور والمدينة”؛ لأنَّها تحملُ الكثيرَ من الألَم والشُّعور بذكريات الصِّبــا، والآمال الذابلة، في مدينةٍ تجسِّدُ التِّنينَ الـمُفترسَ حيث ينهشُ النَّاسَ الذين لا يستطيعون التَّكيُفَ مع الـحياة في المدينة وأقبيتها اللعينة. لذلك، فإنَّ التجربة الذَّاتيَّة غالبًا ما تُلقي بظلالها على صاحبها؛ لأنها تقوم على استحضار الأمكنة المرتبطة بالذكريات واللقاءات والوقائع.
ونستطيع القول إنَّ السَّيَّاب قد انطلق من رصد الواقع المأساويّ للمجتمع، حيث راح يتلبَّسُ شخصيَّة تـمُّوز في ذاته. ولا غروَ أنَّ ظاهرة الإحساس بالغربة عن الوطن المفقود، تندلعُ تشظّــيًا تشاؤميًّا عندما يقعُ السَّيَّاب في قبضة الأسْر، أو النَّفي، أو السَّجْن، عَبْرَ مستوياتٍ لـِمَعنى ” الأنــــا الآخَر”، وذلك على الشَّكل التالي:
أ-” الأنــــا الآخَر” هي الزمن الـماضي:
يعود هذا الزمن إلى عهد الطُّفولة وصفائها ونقائها وبهائها، حيث كانَتِ “الأنـــا” السَّيَّابيَّة تحِنُّ إلى زمنٍ استرجاعيّ مُفعَم بالبراءة والأصالة، فتصيرُ الطُّفولة، إذ ذاكَ، زمنًا “آخَر” بالنِّسبة إلى “الأنـــا” الحاضرة، التي ترفضُ الزمنَ الآنــيّ. وهكذا، راحَ يستعيدُ أحلامَ الطُّفولة، ويقُصُّ حكاية “يأجوج مأجوج” لتغدوَ “مخزونًــا ثقافيًّا” ([10]). وإنَّ روحَ السَّيَّاب تسري باحثة عن “مولد الروح” ([11])، عائدةً من بغداد إلى جيكور على “جواد الحُلُم”. وهكذا، تحاولُ “الأنــا” بشكلٍ من الأشكال أنْ ترجِعَ إلى الزمن الغابر وتستعيدَه لعلَّها تُــكــوِّنُ ذاتها الجديدة، المتحوِّلة بسِمة “الماء” رمز الـحُزن الذي لا يُمكنُ إسرارُه، وسِمة “الدَّرب” رمز التوجُه الإيجابـيّ؛ لأنَّه مرتبطٌ بالنَّدى والزَّهر، كما يقول في قصيدة “العودة لـِجَيكور”:
“على جوادِ الـحُلْم ِ الأشْهَب ِ
وتحتَ شَمْسِ الـمَشرِقِ الأخضَرِ
في صَيْفِ جَيْكورَ السَّخــي الثَّري
أسْرَيْتُ أطوي دربــيَ النَّائـــي
بينَ النَّدى والزَّهْرِ والـمَاءِ” ([12]).
ب- “الأنـــا الآخَر” هي الـجَسَد الـمَسجون”:
إنَّ “الآخَر” بالمعنى الذي نقصدُه هو “نحنُ” منظورًا إليه من “الآخَر” الذي لَـم يكن كما هو كائنٌ، بل كما أرادَه ذلك “الآخَر” أنْ يكون. ولَــمَّا كانَ “الجسَدُ” بالنِّسبة إلى أفلاطون “سِـــجْـــنًا”، فهذا يعني أنَّ “الجسَدَ السَّيَّابـيَّ” داخلَ سِجْنِ الذاكرة الزمنيَّة والذِّكرى الطفوليَّة، بمعنى أنَّه يحاول أنْ يخرجَ مِنَ السِّجن الجسديّ ليسكُنَ جسَدًا جديدًا مثاليًّا، لتحقيق ذاته
[9]– قهوجي، سليم، مناهل الأدب العربيّ، مكتبة سمير دار نشر، بيروت، 2000، ط1، ص 247.
[10]– المعوش، سالم، في الأدب العربيّ الحديث، دار الكتُب الوطنيَّة، ليبيا، ط1، 1993، ص593.
[11]– مبارك، رشيد، ميتات عربيَّة وشرقيَّة في الشِّعر العربيّ الحديث، دار ماهر، بيروت، ط1، 1995، ص 134.
-[12] السَّيَّاب، بدر شاكر، الأعمال الشِّعريَّة الكاملة، م1، ص 420.
الجديدة، في “زمن الاستجابة”([13]). وهكذا، إنَّ انتظارَ الشَّاعر في الزَّمان، إنَّما هو دليلٌ على الضَّياع والتشوُّق. لذلك، إنَّ الفصْلَ الأفلاطونــيَّ بين الجسد والرُّوح يظهَر في شِعر السَّيَّاب، إذ يتحدَّث مُطوَّلًا مع الآخرين ومع نفسِه عن قبره، الذي يحتوي جسَدَه فقط، كما يقول في قصيدة ” سَجين”:
“وطالَ انتظاري كأنَّ الزَّمانَ
تلاشى فلَـــمْ يبقَ إلَّا انتظارْ
وعينايَ مِلءُ الشَّمالِ البعيدِ
فيا ليتَني أستطيعُ الفِرارْ
وأنتِ التقاءُ الثَّرى بالسَّماءِ
على الآلِ، فــي نائياتِ القِفارْ”([14]).
ج- “الأنــــا الآخَر” هي الدَّاخل:
هذا “الآخَر” الدَّاخليّ، يظهَرُ في المناطق العميقة الـمُظلِمة في نفسِه، التي تــحُثُّــه على سلوك غير عقلانــيّ في بعض الأحيان، حتَّى إنَّ هذا “الآخَر” يمكن تسميته بحركيَّة نفسيَّة، لها أبعاد انتشاريَّة وانحصاريَّة في آن، إذ تُضفي نوعًا من المناجاة الدَّاخليَّة مع نفسه الحائرة، عَبْرَ استبطانٍ ذاتــيّ متحرِّكٍ، حتَّى تزرعَ معها تلك “الظَّلال” التي تتمسَّك بحضورها الغائب لترمزَ إلى سمةٍ مثاليَّة تربط بالرُّوح، وسمة نفسيَّة ترتبط بالكَبْت والإبعاد والإخفاء، وهي أقربُ إلى مفهوم “الـهُوَ الفرويديّ” منه إلى العالَم الواقعيّ المنظور. وتصيرُ صورةُ السَّفر التشاؤميَّة أقوى من الواقع؛ لأنَّ “الظلالَ” هي الجانب المجهول والـمُوحِش، عَبْرَ “التَّلال” في ذلك المكان الدَّائب على الحركة والعبور إلى عوالـمَ روحيَّة؛ لأنَّها تترقَّبُ وتنتظر العثورَ على أوَّليَّات التجربة الرّوحيَّة المسافرة في الكون، كما يبدو في قصيدة ” النَّهرُ والموت”، حيث يخاطبُ الشَّاعرُ “بوَيب” ذاك النَّهر الصَّغير الحزين في قريته “جيكور”، الذي غدا جزءًا من تكوينه الوجوديّ، فصار بُويبُ السَّيَّابَ، والسَّيَّابُ بُـويبًا، إذ يرقد في قاعِه مَيْتًـا، غيرَ أنَّ النَّهرَ “يُبادلُه الفداءَ ويُعطي دمَه للبشَر” ([15])، حيث يقول:
” بُويَبْ… بُويَبْ
أجراسُ بُرجٍ ضاعَ في قرارةِ البحرْ
الماءُ في الجِرار، والغروبُ في الشَّجَرْ
وتَنضَحُ الجرارُ، أجراسًا مِنَ الـمطَرْ
بُوَيْبُ… يا بُوَيْبْ !
فيَدلَهِمُّ في دمــي حنينْ
إليكَ يا بُوَيْبُ يا نَهْريَ الحزينَ كالمطَرْ
[13]– لالاند، أندريه، موسوعة لالاند الفلسفيَّة، م3، تعريب خليل أحمد خليل، بيروت، 1996، ص 1433.
-[14] السَّيَّاب، بدر شاكر، الأعمال الشِّعريَّة الكاملة، م1، ص 78.
-[15]عليّ، عبد الرِّضـا، أوراق في تلقِّي النَّصّ الإبداعيّ ونقدِه، دار الشُّروق للنَّشر والتَّوزيع، رام الله، ط1، 2007، ص 29.
أوَدُّ لَو أُطِلُّ مِنْ أسِرَّةِ التِّلالِ
لِألْمَحَ القمَـرْ
يخوضُ بينَ ضــفَّــتَــيْــكَ، يزرعُ الظِّلالْ
ويملأُ السِّلالَ
بالماءِ والأسْماكِ والزَّهَرْ”([16]).
د- “الأنـــــا الآخَر” هي الـخارج:
هذا الآخَر، قد يكون هو الواقعُ الـمَحَلِّيّ، الذي يقطنُه السَّيَّاب، وقد تتبدَّلُ شخصيَّاتُه تبَعًا للزمان ولعلاقة “الأنــــا” بالآخَر وللهُويَّة والُّلــغَــة، حتَّى إنَّ الأمكنة مفتوحة على الرُّغم من أنَّها مُغلَقة، وهي أيضًا مُغلَقة على الرُّغم من أنَّها مفتوحة، وهي في كِلتا الحالتَين تُمَثَّلُ انشطارًا للنَّفس الحائرة، إذ يقول في قصيدة ” في الليل”:
“الغرفة ُ مُوصَدَةُ الباب ِ والصَّمْتُ عميقْ
وستائرُ شُبَّاكــي مُرخاة ٌ رُبَّ طريقْ
يتنَصَّتُ لــي، يترصَّدُ بـــي خلْفَ الشُّبَّاكِ
وأثوابــي كمُفزِّعِ بُستانٍ، سُودُ
أعطاها البابُ المرصودُ نَفسًا، ذَرَّ بها حِسًّا، فتكادُ تفيقْ
مِنْ ذاكَ الموتِ، وتهمِسُ بــي، والصَّمْتُ عميقْ:
لَــمْ يبقَ صديقٌ ليزورَكَ في الَّليلِ الكابــي
والغرفةُ مَوصودةُ الباب ِ”([17]).
هـــ – “الأنــــــا الآخَر هي “القِــنــاعٌ:
لَــمَّــا كانَتْ “كُلُّ كلمةٍ هي قِنــاعٌ” بحسب “هيدغر”، فهذا يدلُّ بشكل مِنَ الأشكال على أنَّ كلَّ عملٍ شِعريٍّ يقوم به السَّيَّاب، إنَّما هو في الوقت ذاته وسيلة ٌ للإخفاء والكشف، مِــمَّــا يجعلُنا ننسُبُ أعمالَه الشِّعريَّة إلى ذلكَ الآخَر الواقف وراء القِناع، إذ إنَّه إشارة إلى التَّواجُد مع العالَم الخارجيّ، والهروب منه في آنٍ. نستنتج أنَّ هذا “الآخَر” يرتدي القناعَ، وهو -إذ ذاكَ- وسيلةٌ لأنْ يقولَ السَّيَّابُ كلَّ ما لا يستطيعُ أنْ يقولَه بشكل مُباشِر فـي القضايا الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة، من خلال ذلك “الآخَر” الذي هو في الأساس “نـحن” الـمُقَنَّعة، إذ يقول في قصيدة ” فِرار عام 1953″:
“في ليلةٍ كانَتْ شرايينُها
فحْمًا، وكانَتْ أرضُها مِنْ لحودْ
يأكُلُ مِنْ أقدامِنا طينُها
-[16] السَّيَّاب، بدر شاكر، الأعمال الشِّعريَّة الكاملة، م1، ص 453 – 454.
تسعــى إلى الماء، إلى شراعٍ مَزَّقـــتْه الرُّعودْ
فوقَ سَفينٍ دونَ أضواء في الضِّفَّةِ الأُخرى
يكادُ العراقُ يُومِئُ يـــا أهلًا بأبنائي
لكِنَّنــا، واحسرَتـــــاهُ، لَــــنْ نعودْ”([18]).
2- الإيقاعُ المكانــيُّ “أين” حَـــيِّزٌ مَعرفــيٌّ:
لَــمَّــا كانَ المكانُ حَيِّزًا جغرافيًّــا مَعرفيًّــا، فهذا يعني أنَّ رحلة السَّيَّاب تنقله من المظهَر إلى الجوهَر؛ لأنَّه يتعامَلُ مع النَّفس مِنْ خلال الحَدْسِ الذي يتداخل الخيالُ بالوَهْم المكانــيِّ. لذلك، فإنَّ الُّلغَـة في التَّشكيل المكاني تكونُ أداةً مكانيَّة دالَّة على مجموعة من الحواس التي تؤثر بشكل مباشر على الجهاز العصبيّ، وهذا ما نَلحَظُه في قصيدته تحت عنوان : “مدينة بلا مَطر”، إذ يقول فيها:
مَدينتُنا تُؤرِّقُ لَيْلَها نــارٌ بلا لَهَب ِ
تُـحِمُّ دروبُــهــا والدُّورُ، ثُـــمَّ تزولُ حُـــمَّـــاهـــا
ويصبِغُها الغروبُ بكلِّ مــا حملَتْـــه مِنْ سُحُب ِ
فتوشِكُ أنْ تطيرَ شرارةٌ ويهُبَّ موتاهـــــــا:
صحـــا من نومِه الطينيِّ تحت عرائشِ العِنب”([19]).
إنَّ السَّيَّابَ لا يهدفُ إلى تصوير المكان الواقعيِّ سَواءٌ أكانَ في “المدينة” وأزِقَّـــتِــهـــا أمْ في “الدُّروب” ولهيبها، بل يُصوِّرُ ذلكَ المكانَ الذي يُؤرِّقُـــه ممَّا يعني أنَّ التشكيلات المكانيَّة هي تجسيدٌ لواقعٍ مكانــيٍّ مرفوضٍ كُلِّيًّــا، عِلمًا أنَّ هذا الـحَيِّزَ المكانـيَّ ليس مِنَ الـمُركَّباتِ الهندسيَّة فحسْبُ، بل يتَّخذُ دلالاتٍ نفسيَّة ضاغطة.
وبهذا يكونُ المكانُ قناعًا لمدينةٍ غارقةٍ “بالنَّار” التي تحملُ دلالة التَّصفِّي. وهكذا تكونُ “المدينة” رمزًا للخواء الرُّوحيّ. أمَّا المعجم اللغَويُّ ذو الدَّلالات المكانيَّة فهو: “المدينة، ودروبُــها، والدُّور”.
وبما أنَّ هذه الدَّلالات تقومُ في المكان وليس العكس، فهذا يؤكِّد إلى حَدٍّ بعيد أنَّها مُتصوَّراتٌ ذهنيَّة قلَّــما تُفارقُه، فظلَّ سَفَرُه قائمًا على استبطان الوعي المنشطِر. وتتراتبُ هذه الأحيازُ المكانيَّة وَفْقًــا لوظيفة كلٍّ منها، إذ تتَّسِعُ وتضيقُ تَبَعًا للظواهر النَّفسيَّة، وهذا يُفسِّرُ علاقة السَّيَّاب بالمكان الغائب الذي يمُدُّه بتصوُّراتٍ روحيَّة عميقة، قائمة على الغربة، حتَّى تتشكَّل الرحلة عَبْرَ ثنائيَّة الاقتراب والافتراق.
لذلك، يتحرَّكُ السَّيَّابُ في هذه التجربة الشِّعريَّة بين مكانَين اثنين: المكانُ الأوَّلُ غائبٌ قائمٌ في قريته “جيكور”، ويتشكَّل من الزمن الماضويّ الـمُفعَم بالحنين، إذ يَشمَلُ “الهُناكَ”، وهو مُتعلِّقٌ بالأرضِ والـهُـويَّـةِ، ويمتزجُ بمشاعرِ السَّفر الرُّوحيّ إلى عهدَ الطُّفولةِ، ويتشكَّل أيضًا من الزمن المستقبليّ الـمُقيَّد بالقلق، فيما المكانُ الثاني هو حاضرٌ قائم في المدينة، حيثُ يقومُ على الصِّراعِ والانكسارِ في الواقع الـمُعـاش. حتَّــى إنَّ المكانَ السَّيَّابـيَّ ليسَ الامتداد ولا الـمُمْتَدّ، بل هو مـــا يـمتدُّ فيه الـمُمتَدُّ الرُّوحيُّ؛ لأنَّه يبحثُ عن وطنٍ مفقودٍ.
[18]– المصدر نفسه، ص201.
[19]– السَّيَّاب، بدر شاكر، الأعمال الشِّعريَّة الكاملة، م2، ص 486.
وهكذا، ظلَّ يتخبَّطُ في طمأنينةٍ ضائعةٍ، وطفولةٍ غائبةٍ. وهذا دليلٌ على أنَّ الـمُتصوَّراتِ لقوى الطَّبيعةِ قائمة ٌ في ذهنِه، من مثل: “الليل”، والنَّار”. لكنَّ الـحَيِّزَ الشِّعريَّ للمكان، لا يتوقَّفُ على العنصر اللغَويّ فحسْبُ، بل يقتصرُ على العنصرِ الـخياليِّ بدافعٍ نفسيٍّ ينفَذُ إلى أعماق الرُّوحِ السَّيَّابيَّة الصَّافيةِ.
ولعلَّ الصُّورةَ الشِّعريَّة َفي قصيدتِه تعمل بشكلٍ أو بآخَر على التقاطِ التَّقاطُباتِ المكانيَّة لتجسيدِ المعاناةِ الفعليَّةِ، واستنطاقِ المكانِ الذِّهنيّ في فضاءٍ مُغلَقٍ ومَفتوحٍ في آنٍ، حتَّــى تغدوَ المدينةُ مكانًــا مُدنَّسًا، يُهمِّشُ الجانبَ الرُّوحيَّ، وتَصيرَ القريةُ مكانــًا مُقدَّسًا يُبلسِمُ الجانبَ الجسديَّ. لذلك، تستندُ فاعليَّةُ التَّأويلِ القرائيِّ إلى أنَّ الـمَكانَ السَّيَّابـيَّ مُغلَقٌ على الرُّغم ِمِنْ أنَّه مكانٌ مفتوحٌ، وهو أيضًا مكانٌ مفتوحٌ على الرُّغم مِنْ أنَّه مكانٌ مُغلَقٌ.
إذًا، لا نستطيعُ أنْ نفصِلَ الزمانَ السَّيَّابــيَّ عنِ المكان السَّيَّابــيِّ. هكذا اتَّخذَ السَّيَّابُ من هذه المتصوَّرات رموزًا لوطنِه المفقود الذي ما استطاعَ الوصول إليه إلَّا من خلال المناشدات الرّوحيَّة.
2-الإيقاعُ الزمانـيُّ ” مَــتَــى” حَــيِّزٌ ذِهــنيٌّ:
يتضمَّنُ الإيقاعُ الزمانيُّ السَّيَّابـيُّ ثلاثة َ أبعادٍ، وهي: الذاكرةُ الماضويَّةُ، والانتباهُ إلى الحاضرِ، والتوقُّعُ الواهِمُ للمُستقبل. هذه الأبعادُ تتحرَّكُ في السَّفر الأسطوريِّ المرتبطِ بالزمن النَّفسيِّ، إذ يُحاولُ أنْ يكشفَ مِنْ خلالِه عن الواقعِ الأليمِ والمصير المجهول.
لذلك، فإنَّ اللغة في التَّشكيل الزّمانـيّ تكونُ أداةً زمنيَّة دالَّة على مجموعة من المقاطع والأصوات والحركات والسّكنات في دلالات مكانيَّة مُتَّصلة؛ لأنَّها مَكسَبٌ متأخِّرٌ على تمثُّل الأحداث في ترتيبها. وإذا كانَ المكانُ السَّيَّابـيُّ رحلةً روحيَّة، فإنَّ الزمانَ السَّيَّابـيَّ هو منفى ذِهنـيٌّ مُتصوَّرٌ ومُنساحٌ، حيث تفقُدُ فيه “الأنــا” السَّــيَّــابيَّة فعاليَّــتَهــا المعنويَّة، إذ يُتابعُ القولَ في قصيدة “مدينة بلا مَطر”:
“ويصبُغُهــا الغروبُ بكلِّ ما حَـمَلَــتْــه مِنْ سُحُب ِ
فتُوشِكُ أنْ تطيرَ شَرارةٌ ويَهُبَّ مَوتــاهــا:
صَحــا تمُّوزُ، عادَ لبابلَ، ثُــمَّ يغشاها
صفيرُ الرِّيحِ في أبراجِها وأنينُ مَرضاها”([20]).
إنَّ تحليلَ الخطاب الشِّعريّ، يَسقُطُ في حيِّز ذهنيّ وهو”الغروب”، الذي يحملُ دلالاتٍ احتمائيَّةٍ انحصاريَّة مُتلاشيةٍ على مُستوى الفعل المنظور مِن وُجهةٍ، وعلى مستوى الإدراك الحسيِّ من وُجهةٍ ثانيةٍ. وهذا يدلُّ على أنَّ السَّيَّابَ قد وَضَعَ التشكيلَ الشِّعريَّ مُتلائِمـًــا مع ذهنيَّة التَّصوُّر الطُّفوليّ للزمان “الآخَر” الذي ما زالَ مَاثِــلًا في ذاكرته. ويتَّضحُ أنَّ “الغروب” يمتلكُ حضورًا صُوَريًّا وعاطفيًّا ووِجدانيًّا، يبعثُ في النَّفس على التأمُّل والتوحُّد مع “الأنــا” الـمُنشَطرة، حتَّى تصيرَ “السُّحُب” رمزَ الخَصب والحياة، الذي يُسهِمُ بشكل أو بآخَر في إحياء الرُّوح السَّيابيَّة.
ولـمَّا كانَ الشُّعورُ يتأثر بالزمن النَّفسيّ، فإنَّما هو دليل على معاناة السَّيَّاب الروحيَّة التي تتلمَّسُ النِّضال للإمساك بالزمن المتَّصل لا الزمن المنفصِل.
وينبثقُ هذا الغروبُ الزَّمانــيُّ مِنَ الذَّاكرة السَّيَّابيَّة الـمُعقَّدة ببساطتـها، والبسيطة في تشابُكِهــا حتَّى يتَّخذَ المكانُ صورةً إيحائيَّة ً تترسَّبُ فيها ذكرياتُ الطُّفولة بأبعادِها المكانيَّة والزمانيَّة في آنٍ. ونظرًا إلى هذا المجال الخياليّ الـمُطلَق،
[20]– السَّيَّاب، بدر شاكر، الأعمال الشِّعريَّة الكاملة، م2، ص 486.
والصُّوفيّ الإشراقيّ، فإنَّ تداخُلَ الزمان بالمكان، هو الـمُمْكِنُ الذِّهنيُّ الـمُتصَوَّر، وليس الـمُمكِنُ الفِعليُّ الـمُدرَك؛ لأنَّ العلاقات الفعليَّة لدى السَّيَّاب، هي علاقاتٌ تُشكِّلُ عُمقــًا روحيًّا.
لــمَّـــا كانَ الخطابُ الشِّعريُّ السَّيَّابـيُّ يُـمثِّــلُ دورًا أساسيًّا في تشكيلِ المعنى النَّابضِ بالمعاناةِ الصَّادقةِ، والرؤيا المفعمَةِ بالإبداعِ، والتَّجربةِ الـمَمْــزوجةِ بالألَم، والصُّوَرِ الجيَّاشةِ بالحركةِ، فهذا يعني أنَّ الخطابَ الشِّعريَّ يَستنطِقُ خفاءَ الصُّورة التي تؤسِّسُهـا العلاماتُ الـمُتحايلةُ في قصيدة السَّيَّاب، وتتبدَّى في كلِّ وجهٍ مِنْ أوجُهِ النَّشاطِ الشِّعريِّ لديه، فضلًا عنْ فهْمِه للواقعِ المتناقضِ بأشكاله الـمُتباينة.
أمَّا عن تَرحال السَّيَّاب إلى أمْكنةٍ مُتخيَّلةٍ، فرُبَّــما تكونُ صُوَرًا مُتخيَّلة ً من الماضي، على أنَّ أبرزَ عناصرِ غربته هي الرَّفضُ الخالص من وتيرةِ الزمان، وهدوء المكان. نستنتج أنَّ التَّشكيل الزماني في شِعر السَّيَّاب، لا ينفصلُ عن التَّشكيل المكاني في كُلّ مظاهره.
3- الإيقاع الوجوديٌّ “كيفَ” حيِّزٌ أسطوريٌّ
احتلَّتِ الرِّحلة السَّيَّابيَّة حيِّزًا كبيرًا في شِعره، وغالبًا ما اتَّخذَ من رحلته رموزَ إيقاعٍ حزينٍ، لسَفَرٍ صُوفــيٍّ يأسُرُ نفسَه في سِجن مكانــيّ زمانــيّ، حتَّى باتَتْ مأساةَ انتظارٍ، تتناهى إلى خيالِه الحالِم في وطنِه العراق، غير أنَّه يحاولُ مِنْ خلال المنحى الأسطوريّ المرتبط بالزَّمن النَّفسيّ أنْ يُلائمَ بين الرّمز والمرموز إليه، حتَّى تصيرَ العلاقة تأويليَّة، فتستمدَّ فعاليَّتها الدَّلاليَّة مِنَ السِّياق الُّلغَويّ. وهكذا، يبدو أنَّ الماضي الأسطوريّ هو نقطة البداية، ويستمرُّ متواصلًا إلى الحاضر الأليم، حتَّـى يمنع الماضي التَّاريخيّ الحاضر من كَسْر رتوب هذا الماضي ومَنْع حركيَّتَه باتِّجاه المستقبِل، إذ إنَّ للتَّمثيل الرَّمزيّ وظيفة ً تتواءَم مع الصُّورة، وبالتالي تكونُ صورةُ العالَم علميَّة ً بالرموز العلميَّة، وتكون الصوُّرة شِعريَّة، بالرموز الأسطوريَّة، إذ يجمعُ السَّيَّابُ في هذه الرِّحلة بين “تمُّوز البابليّ”، و”بَعْل الفينيقيّ”، “وسيزيف اليونانيّ”، حيث يقول في قصيدة “مَرحى غيلان”:
” فكأنَّ أودية َ العراقِ
فتَحَتْ نوافذَ مِنْ رؤاكَ على سُهادي: كُلُّ وادِ
وهَبَتْه عشتارُ الأزاهرَ والثِّمارَ [ ]
أنـــا بعْلُ: أخطُرُ في الجليلِ
على المياه أنُثُّ في الورقاتِ روحي والثِّمارِ [ ]
سيزيفُ يرفعُها فتسقُطُ للحضيضِ معَ انهيارِك”([21]).
يُوظِّفُ السَّيَّابُ في هذه المقطوعة المزجَ بين الأساطير في تجربته الشِّعريَّة، وهو -إذ ذاك- أكثر الشُّعراء “استيعابًا لأهميَّة الرَّمز التَّـمُّوزيّ”([22])، حيث استطاعَ بشكل أو بآخَر إلى أنْ يرتقيَ بالدَّلالاتِ الأسطوريَّة إلى روح العصر. إنَّ “تموز البابليّ” هو روح النَّبات التي تموت وتحيا في دورةٍ أزليَّة مُتسمرَّة بمساعدة روح الخصوبة الكونيَّة. ولكنَّ “بعل الفينيقيّ” هو سيِّد الآلهة في الجحيم. أمَّا “سيزيف اليونانيّ” فهو بَطَلُ تجربة العَبَث الذي أنزلَ فيه الآلهة ُ عقابهُم، ولكنْ عندما يستعيد وعيَه يعود إلى صرخته ليكونَ أرفعَ النَّاس إطلاقـــــًا.
هذه الأساطير الثلاث ثمثلُ دورًا مُزدوجًا كأبناء وأزواج في آنٍ. ولكنَّ الرُّوحَ السَّيَّابيَّة في هذه المقطوعة الشِّعريَّة، تجعلُ من هذه الأساطير حالة ً روحيَّة ً عميقة في الـحَّـيِّـزِ المكانيِّ، وهو يتمثَّل في “أوديةُ العراق”، إذ يملأُ كُلَّ فراغٍ
[21]– السَّيَّاب، بدر شاكر، الأعمال الشِّعريَّة الكاملة، م1، ص 324.
-[22] زيتونيّ، لُؤي فؤاد، شِعر الفداء والانبعاث، دار أبعاد، بيروت، ط1، 2015، ص 218.
زمانــيٍّ قادر على إدراكِ قوى الطَّبيعةِ التي تعي وتُصغي وتفعَلُ وتؤثِّــرُ وتُواكِبُ السَّيَّابَ وتتحسَّسُ أوجاعَه الروحيَّة و”همومَه الإنسانيَّة” ([23]) بكلِّ أبعادها.
هذه النَّظرةُ الأسطوريَّة غالبًا مــا كانَتْ تتداخلُ مع المنحى الدِّينيّ والمنحى الفلسفيّ على أنَّهما تجسيدٌ رمزيٌّ للظواهر الطَّبيعيَّة في حدِّها الواسع، والبنى الاجتماعيَّة في بُعْدِها الأوسع. والجدير ذِكرُه هو أنَّ السَّيَّاب يبدو باحثًا عن قضايا الحياة الاجتماعيَّة، وهو في ذلك يبحث عن سعادة الإنسان في هذا الوجود، فعدَّه كإنــاءٍ خالٍ و”استعمالُه غير محدود” ([24]). وإزاء هذا الموقف الوجوديّ نُصرِّح أنَّ العديدَ من الشُّعراء قد وجَدوا أنفسَهم أمام سُدود عالية، وعوضًا من الحلول استسلموا أمام الواقع الأليم. وهكذا، نستطيع الاعتقاد أنَّ البحث عن سعادة الإنسان وسِرّ وجوده، هو مسألة قديمة قِدَمَ التَّشاؤم. وإذا ما تحدَّثْنــا عن فلسفة السَّيَّاب المصبوغة بالتَّشاؤم، فإنَّنا نلمَسُ ملامحَ الغربة في إدراكات العالَم الشَّرقيّ ومميزاته، وبهذا المنحى نصبو إلى الاعتقاد أنَّ مسألة الغربة عند السَّيَّاب قدِ اتَّخذَتْ بُــعْــدًا إنسانيَّا يقوم على “الوحدة والاقتراب من التَّشاؤم الفرديّ” ([25]).
ولكن ليس ثمَّة من طريق إلى مواجهة حياة الأفراد، التي يُسيطر عليها -بشكل أو بآخَر- “شعورٌ بالوَحدة”([26]) والأرق والقلق والخوف، حيث إنَّ السَّيَّاب تحت وطأة العجز والانفراد، يبحث عن مَهرَب زائفٍ يلجأ إليه، ويدفن فيه مشاعرَه الحزينة بعد أنْ يُردِّدَ كلمة “هوسمان” المتشائمة واليائسة :Hoosman
“أنــا غريبٌ وخائفٌ في عالَــم ٍ لَــمْ أصنعْه أبدًا”. حتَّى أضحى السَّيَّابُ في أساطيره مُعبِّرًا عن مشاعر إنسانيَّة صادقة.
إذًا، إنَّ ضجيج المدينة ليس هو الفقر الماديّ الذي يُعانيه العديد من الشُّعراء، بمقدار مــا هو انهيار روح الحريَّة والثقة بالنفس، حيث اعتاد السَّيَّاب “مواجهة الصُّعوبات بالشِّعر حتَّى إنَّ ذاكرتَه الشِّعريَّة أبَتِ الاضمحلالَ والخفوت” ([27]).
4- الإيقاع البِنائــيّ حيِّزٌ صوتــيٌّ موسيقيّ
لَــمَّا كانَ الإيقاعُ “نظامًا هرمونيًّا يتميَّز عن الإيقاع الاعتباطيّ في النَّثر” ([28])، فهذا يعني أنَّ الإيقاعَ السَّيَّابـيّ هديرٌ داخليٌّ يعتملُ في كيانه المفعَم بالانفعال، ويتصاعَد عَبْرَ حالةٍ من التَّوازن في إحساسِه، ويتَّضحُ ذلك في التكرار المتشابه والحروف والقافية والتنسيقات الصَّوتيَّة المعجَّلة والمؤجَّلة، التي تُوزِّعُ الـنَّبْرَ ([29]) Accent وكيفيَّة حُدوثه ([30]) على الأنساق التركيبيَّة والتَّنغيم، كما يقول في قصيدة: “أنشودة المطر” إذ يصِفُ أُمَّــه وهو طفلٌ، إذ يقول:
“تثاءَبَ المساءُ، والغيومُ ما تزالْ
تسِحُّ ما تسِحُّ مِنْ دموعِها الثِّقالْ
كأنَّ طِفلًا بــاتَ يَهذي قبْلَ أنْ ينامْ
[23]– زيتون، علي مهدي، السَّيَّاب أضواء على الرؤية واللغة الشِّعريَّة، ج2، حركة الرِّيف الثقافيَّة، بيروت، ط2، 1999، ص 84.
-[24] لاتوسه كونفجيه، جون تسه، المختارات، بلغراد، 1962، ص34.
[25]– بوجوفيج، رادي، ” التَّشاؤم الاجتماعيّ في شِعر السَّيَّاب “، مجلَّة الآداب، بيروت، العدد 1، ك2، السَّنة 18، 1970، ص 37.
[26]– العشماوي، محمود زكي، دراسات في النَّقد الأدبيّ المعاصر، دار الشروق، الإسكندريَّة، ط1، 1994، ص 228.
-[27] هوَّاري، ندى مرعشلي، غربة الرُّوح في شِعر بدر شاكر السَّيَّاب، دار النَّهضة العربيَّة، بيروت، ط1، 2015، ص 25.
[28]– فاضل، جهاد، قضايا الشِّعر الحديث، دار الشروق، بيروت، ط1، 1984، ص 282.
-[29] شاكر، عبد القادر ، عِلْمُ الأصوات العربيَّة، دار الكُتُب العِلميَّة، ط1، 2012، ص 67.
[30]– الزُّحيليّ، وهبه، الموسوعة القرآنيَّة الميسَّرة، دار المشرق، بيروت، ط2، 2003، ص 626- 627.
بأنَّ أُمَّـــهُ الـتي أفاقَ مُنذُ عامْ
فَــلَــمْ يجِدْهــا، ثُــمَّ حينَ لَــجَّ في السُّؤالْ
قالوا لَــهُ: بَعْدَ غَدٍ تعودْ
لا بُدَّ أنْ تعودْ
وإنْ تهامَسَ الرِّفاقُ أنَّها هناكْ
في جانب ِالتَّــلِّ تنامُ نومَة َ اللُّحودْ
تَــسِــحُّ مِنْ ترابـــِها وتشربُ الـمَـطَر”([31]).
يركِّزُ السَّيَّابُ في هذه المقطوعة على صورة أُمِّه التي تركَتْ صدًى كبيرًا في حياته، وهي تحيا بعد موتها في كيانه. وهكذا يمكن “الاستدلال على تلك البنية الدَّلاليَّة الكليَّة عبر المستوى المعجميّ”([32])، إذ تمتزجُ “الأنا” الفرديَّة للشَّاعر بالجماعيّ “الرفاق” في قرية “جيكور”. وقد اختارَ السَّيَّابُ لفظة “غَــدٍ” ليدُلَّ بها على ثلاثة أزمنة انتشاريَّة وانحصاريَّة مُتشاكلة وهي: “الأمس”، و”اليوم” و”الغد”.
وإذا قرأنــا شيفرة “الأمس” على أنَّها إشارة لزمانٍ ماضٍ، وشيفرة “اليوم” على أنَّها إشارة لزمن حاضرٍ إذ يدلُّ على زمنٍ غير “الأمس”، فهذا يعني أنَّه لا يدلُّ على زمن غير “الغد” أيضًا. وهذا يجعلُنــا نستنتجُ أنَّ زمانَ “غد” الشَّاعر هو حاضرُه القابعُ فيه، حيث إنَّه على موعد زمانـيّ استرجاعــيّ مع شيفرة “الأمس”، لتأتي الصِّياغة في شُحَنٍ عاطفيَّة مُتلاحقة، وهي إنْ دلَّتْ فتدلُّ على تكثيف النَّزعة التَّشاؤميَّة التي تمورُ في قراءةٍ تفاعليَّة بين الـحُزن والغربة.
لذلك، نستشِفُّ من هذه المقطوعة إيقاعًا بنائيًّا يتراوح على ثلاثة أجزاء: الجزء الأوَّل هو الإيقاع المقطعيّ الذي ينهَض على عمليَّة إحصائيَّة لتفعيلة بحر البسيط “مفاعلن” التي استخدمها الشَّاعر على أنَّها جوازٌ لتفعيلة “مستفعلن”، وذلك في شكل حَلَزونــيّ دائريّ. والجزء الثاني هو الإيقاع النَّبريّ الذي يقوم على دراسة إحصائيَّة للأنساق البطيئة والأنساق السَّريعة. أمَّا الجزء الثالث فهو الإيقاعُ التنغيميُّ الذي يتَّضِحُ من خلال الجـُمَل الخبريَّة التي تدلُّ على الحاضر وتعبِّرُ عن انبعاث “الغد”، فضلًا عنِ الجمَل الإنشائيَّة التي تدلُّ على تصوُّرٍ أوَّليٍّ لهيكليَّة المستقبل.
أمَّا عن الدِّراسة الصَّوتيَّة النُّطقيَّة وثبات أصولها ([33])، فإنَّهــا تتوخَّــى وَصْفَ إنتاج أصوات اللغَـة؛ وذلك يظهر من خلال أحرف الـمَدّ، ومخارج الحروف، حيث تنسربُ البنية الصَّوتيَّة لهذه المقطوعة، انطلاقًا من انسجام الأحرف مع معانيها وصِفاتها.
وهنا، لا نذهَبُ إلى الاعتقاد أنَّ “الشعر العربيّ الحُرّ ظاهرة يجبُ أنْ تُدرَسَ باعتبارها بضاعة مستورَدة لها عيوبها وحسناتها وروَّادُها “([34]). لذلك، ما زالَ الاهتمامُ بمستوى الإيقاع الدَّاخليّ يتحكَّمُ في عمليَّة الاختيار والتوزيع. وفي الحقيقة، إنَّ بنية الإيقاع يمكن أنْ تؤكِّدَ –على نحو من الأنحاء- التداخُل بين الاختيار والتوزيع في آنٍ معًا، وربَّما يُغني.
[31]– السَّيَّاب، بدر شاكر، الأعمال الشِّعريَّة الكاملة، م1، ص 475- 476.
[32]– أيُّوب، نبيل، النقد النصيّ دار المكتبة الأهليَّة، ط1، بيروت، 2004، ص 130.
[33]– الصَّالح، صبحي، فِقه اللغة، دار العلم للملايين، ط10، 1983، ص 278- 284.
[34]– البصريّ، عبد الجبَّار داوود، ” موسيقى الشِّعر العراقيّ المعاصر “، مجلَّة الآداب، بيروت، العدد 1، ك2، السَّنة 18، 1970، ص94.
وبهذا الإطار، إنَّ الدِّراسة الإيقاعيَّة خاضعة لأشكال التأويل القرائيّ، “والتقنيَّات الصوتيَّة” ([35])، ناهيك عن دور الإيقاع البنائيّ: نَــبْرًا يتوزَّع على الأنساق، وتنغيمًا يقوم على التنويع بين الأسلوب الخبريّ والإنشائيّ، ودلالة مُستقاة من الرُّموز والتضمينات. ويبدو أنَّ السَّيَّاب يُحسِنُ التعامُلَ مع التشكيل الموسيقيّ في قصيدته، داخل الجملة الشِّعريَّة. وهذا الاكتمال الموسيقيّ يتبعُه اكتمالٌ إيقاعيٌّ يُعطي لكلّ سطرٍ شِعريّ أبعادًا دلاليَّة، إضافة إلى اللغة الانزياحيَّة، والتساوق بين البنية التركيبيَّة والبنية الزمنيَّة، والتلوين الموسيقيّ ([36]) إذ إنَّ القارئَ الـمُستجيبَ لفاعليَّة الفهم التَّأويليّ تستوقفُه الغربة الشُّموليَّة الوجوديَّة، تمامًا كمَن اهتدى إلى الصِّراط الـمستقيم، حتَّى إنَّ حركيَّة الغربة السَّيَّابيَّة لا تنفصلُ بحضورها المستمرّ عن الغائب المتصوَّر، لبؤرة السَّفر، إذ إنَّنا لا نستطيع أنْ نحسِمَ ما هو غائبٌ في نصّ السيَّاب؛ لأنَّ تجربة النزعة التشاؤميَّة في قصائِده وَجَدَتْ مَلاذَها في الأنــا الـمُفكِّرة، والأنـــا الباحثة، والأنــــا الطامحة.
إذًا، تتمظهرُ جماليَّات الحنين في الأمكنة السَّيَّابيَّة المرئيَّة، وأزمنتها المتصوَّرَة داخل نِطاق فضاء الصورة ووظيفتها الوجوديَّة، حيث حضور الماضي في الحاضر، وغياب الحاضر في الذاكرة.
وهكذا، إنَّ النزعة التشاؤميَّة السَّيَّابيَّة تقوم على الفراغ والألَم بسبب الانسلاخ عن الرِّيف والعيش في المدينة، إذ نستشفُّ من خلال ذلك أنَّ الوظائفَ الدَّلاليَّة للغة الشِّعريَّة السَّيَّابيَّة، ليست إلَّا مادة أساسيَّة في التجربة؛ لأنَّها مرتبطة باندماج المعارف والقدرات والمواقف الإنسانيَّة، فتصير الأسطورةُ إذ ذاك زمنًا مُمتَدًّا بين الماضي والحاضر والمستقبل.
[35]– الزُّحَيليّ، وهبة، الموسوعة القرآنيَّة الميسَّرة، دار المشرق، بيروت، ط1، 2010، ص 626- 630.
-[36] الزُّحَيليّ، وهبة، الموسوعة القرآنيَّة الميسَّرة، ص 630. ونقوم هنا بتفصيل الدِّراسة الإيقاعيَّة الصَّوتيَّة النُّطقيَّة في هذه المقطوعة من قصيدة “أنشودة الـمطَر” على الشَّكل التالي:
-الأحرف الجوفيَّة الهوائيَّة وتُسَـمَّى أحرف الـمَدّ واللين: حرف الألف ( ا ) المتواتر 15 مَرَّة، ويوحي بالمدّ الصوتـيّ العفْويّ عند النُّطق به. وحرف الواو ( و ) المتواتر المتواتر 6مرات، ويوحي بالخوف والتَّوتُّــر. وحرف الياء (ي ) المتواتر 4 مرات، ويوحي بالتأوُّه والحزن والضِّيْق.
-الأحرف الـخيشوميَّة: وهي النون السَّاكنة، والتنوين، حين إدغامهما بغُنَّةٍ أو إخفائهما، والنون والميم المشَدَّدتان. حرف النون (ن) المتواتر 19 مَرّة مع الشَّكل الصوتـيّ، يصدر على مستوى الأنف، ويوحي بالنَّــغَم الحزين، والأنين الهادئ، والانكسار.
-الأحرف الـحَلقـيَّة: الهمزة، والهاء، والعين، والحاء، والغين، والخاء: حرف الهاء ( هـــ ) المتواتر 9 مرات، ويوحي بالهَمْس الـمُرَقَّق. وحرف العين السَّاكنة والـمُـتحرّكة (عْ- عُ- عُ) المتواتر 3 مرات، إذ يُحدِثُ عند النُّطق به ذبذبة في الأوتار الصوتيَّة، ويوحي بالاستعلاء المستفحل في التشاؤم. هذا، فضلًا عن حرف الغين (غَ) الذي يوحي بالإلصاق والتفخيم بملامسة الجزء الخلفي من الـحَنَك، وذلك من مؤخَّر اللسان عند النُّطق به.
-الأحرف الشَّجريَّة، وتُنسَبُ إلـى شَــجْر الفـمّ: وهي السِّين والشِّين: حرف السِّين (س) المتواتر 7 مرات ويوحي بالصَّفير الرَّخو والاحتكاك المهموس المرقَّق.
-الأحرف اللَّهَويَّة: وهي اللحمة المشرفة على الـحَلْق: القاف والكاف: حرف القاف (ق) المتواتر 4 مرات، ويخرج من أقصى اللسان مما يلي الـحَلق وما يُحازيه من الحنَك الأعلى، ويوحي بالشِّدة والإطباق الـجزئـيّ فـي منع جريان الصَّوت مع الحرف.
-الأحرف الذَّلْقـيَّة: وهي ثلاثة: الراء: اللام، والنون الـمُظْهرة: حرف الراء ( ر ) المتكرِّر 5 مرات، ويوحي بالإذلاق وسرعة النُّطق بالحرف نسبة لخروجه من طرف ظهر الِّلسان، حيث تهدأ حركة الرَّوي السَّاكن عليه “مَطَرْ”.
-الأحرف الشَّفهيَّة، أو الشَّفويَّة: وهي أربعة: الفاء، والياء، والميم غير الـمَديَّة. حرف الفاء ( ف) المتواتر 8 مرات، إذ يخرج من باطن الشَّفة السُّفـلـى، ويوحي بالإشمام والاحتكاك المتعاقب للشَّفة، والهَـمْس الـمُرقَّق، والغُنَّة الموسيقيَّة، في مَنْع جريان النَّفَس مع الحرف.
وإذا كانَ الخطابُ الشِّعريُّ التشاؤميُّ في شِعر السَّيَّاب يقوم في الغالب على الجوع والفقر، فهذا يعني أنَّ تداعيات الذَّاكرة ترتبط بشكل مباشَر بظِلالٍ تُقلِقُها على صعيد التجربة الصادقة. حتَّى كأنَّ القراءة التي قُمنا بها ليست سوى صورة جسَّدتْ بشكل من الأشكال الأفكار القاتمة، وغدَتْ نسيجًا جميلًا لتشاكُلات متشابكة، وتقابُلات متباينة، تفتَح بدورها حقولًا معرفيَّة أُخرى.
نستنتج أنَّ غربة السيَّاب تنطوي على دلالاتٍ نفسيَّةٍ حسيَّةٍ، وأدلَّةٍ ذِهنيَّةٍ مُتقاطبةٍ، وتحملُ مضامينَ أسطوريَّة، ورموزًا سندباديَّة، حيث تتشكَّلُ عَبْرَ أمانــي الزَّمن الـماضي الهارب، وتأمُّلاتِ الحاضر الـمُتجَهِّــم، ورؤى الـمُستقبَل المتشائِم.
المصادر والمراجع
- أيُّوب، نبيل، النقد النصيّ دار المكتبة الأهليَّة، ط1، بيروت، 2004.
- البصريّ، عبد الجبَّار داوود، ” موسيقى الشِّعر العراقيّ المعاصر “، مجلَّة الآداب، بيروت، العدد 1، ك2، السَّنة 18، 1970.
- بوجوفيج، رادي، ” التَّشاؤم الاجتماعيّ في شِعر السَّيَّاب “، مجلَّة الآداب، بيروت، العدد 1، ك2، السَّنة 18، 1970.
- رزُّوق، أسعد، الشُّعراء التَّموزيُّون- الأسطورة في الشِّعر المعاصر، دار الحمراء، بيروت، ط2، 1990.
- الزُّحيليّ، وهبه، الموسوعة القرآنيَّة الميسَّرة، دار المشرق، بيروت، ط2، 2003.
- زيتون، علي مهدي، السَّيَّاب أضواء على الرؤية واللغة الشِّعريَّة، ج2، حركة الرِّيف الثقافيَّة، بيروت، ط2، 1999.
- زيتونيّ، لُؤي فؤاد، شِعر الفداء والانبعاث، دار أبعاد، بيروت، ط1، 2015.
- السَّيَّاب، بدر شاكر، الأدب العربيّ المعاصر ، أعمال مؤتمر روما، منشورات أضواء، بيروت، ط1، ت1، 1961.
- السَّيَّاب، بدر شاكر، الأعمال الشِّعريَّة الكاملة، م1، دار العودة، بيروت، 2000.
- السَّيَّاب، بدر شاكر، الأعمال الشِّعريَّة الكاملة، م2، دار العودة، بيروت، 2000.
- شاكر، عبد القادر ، عِلْمُ الأصوات العربيَّة، دار الكُتُب العِلميَّة، ط1، 2012.
- شاهين، محمود، أليوت وأثره على عبد الصَّبور والسَّيَّاب، المؤسَّسة العربيَّة للدِّراسات والنَّشر، بيروت، ط1، 1992.
- الصَّالح، صبحي، فِقه اللغة، دار العلم للملايين، ط10، 1983.
- طاليس، فــنُّ الشِّعر، ترجمة عبد الرحمن بدوي، مكتبة النَّهضة الـمِصريَّة، القاهرة، 1953.
- عليّ، عبد الرِّضـا، أوراق في تلقِّي النَّصّ الإبداعيّ ونقدِه، دار الشُّروق للنَّشر والتَّوزيع، رام الله، ط1، 2007.
- العشماوي، محمود زكي، دراسات في النَّقد الأدبيّ المعاصر، دار الشروق، الإسكندريَّة، ط1، 1994.
- غرقان، رحمن، الأسلوبيَّة بوصفها مناهج، الدار العربيَة للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2014.
- فاضل، جهاد، قضايا الشِّعر الحديث، دار الشروق، بيروت، ط1، 1984.
- قهوجي، سليم، مناهل الأدب العربيّ، مكتبة سمير دار نشر، بيروت، ط1، 2000.
- كامل، فؤاد، الموسوعة الفلسفيَّة الـمُختصَرَة، مكتبة الأنجلو مِصريَّة، 1963.
- لاتوسه كونفجيه، جون تسه، المختارات، بلغراد، 1962.
- لالاند، أندريه، موسوعة لالاند الفلسفيَّة، م3، تعريب خليل أحمد خليل، بيروت، 1996.
- مبارك، رشيد، ميتات عربيَّة وشرقيَّة في الشِّعر العربيّ الحديث، دار ماهر، بيروت، ط1، 1995.
- المعوش، سالم، في الأدب العربيّ الحديث، دار الكتُب الوطنيَّة، ليبيا، ط1، 1993.
- هوَّاري، ندى مرعشلي، غربة الرُّوح في شِعر بدر شاكر السَّيَّاب، دار النَّهضة العربيَّة، بيروت، ط1، 2015.