الصورة الشعرية بين إبداع القدامى وابتداع المحدثين
الدكتور: علي أيوب
استاذ محاضر في الجامعة اللبنانية كلية الآداب والعلوم الإنسانية
2018
مخطط البحث
-مقدمة
-مفهوم الصورة لغة
-مفهوم الصورة اصطلاحاً
-الصورة الشعرية بين الدراسة والنقد
-مفهوم الصورة عند القدماء
-مفهوم الصورة عند الغربيين
-مفهوم الصورة عند العرب المحدثين
-الصورة الشعرية بيت الجمالية والانزياح عن المألوف
-الصورة الشعرية وعلاقتها باللغة
-علاقة الصورة الشعرية بالإيقاع
أ-مفهوم الإيقاع الخارجي
ب-مفهوم الإيقاع الداخلي
-علاقة الصورة بالخيال
-نماذج من الشعر القديم والحديث
أ-الصورة الفنيّة في الشعر العربي القديم
ب-الصورة الفنيّة في الشعر العربي الحديث
-الخاتمة
-قائمة المصادر والمراجع
-الفهرس
المقدّمة:
عالم الشعر عالم جميل، يموج بالحركة والألوان، لغته لا تعترف بالحدود والمنطق، يسعى الشاعر فيه وراء المطلق للتمسّك به عبر تجربته الشعرية، متوسلاً في ذلك الكلمة، والرمز والإيقاع والصورة. “إنّه الشعر صياغة جمالية للإيقاع الفني الخفي، الذي يحكم تجربتنا الإنسانية الشاملة، وهو بذلك ممارسة للرواية في أعماقها، ابتغاء استحضار الغائب من خلال اللغة”[1]. وهو ليس كالنثر” الذي قوامه العقل والمنطق والوضوح… ويؤدّي وظيفة إبلاغية مباشرة”[2]، إلّا أنَّ الشعر بخلاف ذلك “فهو يعتمد على الخيال أو الرؤية التي تحيد بدلالة اللغة الحقيقية عمّا وضعت لها أصلاً لتشحنها بمعان وإيحاءات غير مألوفة”[3].
ويذكر أدونيس في كتابه مقدمة الشعر العربي أنَّ الشعر “يأتي مفاجئاً، غريباً عدو المنطق والحكمة والعقل، ندخل معه إلى حرم الأسرار ويتحد بالأسطوري العجيب السحري”[4]. والشعر أو الشاعر لا ينقل لنا الدلالات والمعاني بصورة رتيبة كما هي في الواقع ولكنّه يروم إلى اكتشاف كنه الأشياء بالشعور والحدس لا بالعقل والفكر لأنَّ “الفكر لا يجوز أن يدخل العالم الشعري إلّا مقتنعاً غير سافر متلحفاً بالمشاعر والتصورات والظلال، ذائباً في وهج الحس والانفعال… ليس له أن يلج هذا العالم ساكناً بارداً مجرّداً”[5]. فالشاعر إذاً ليس كالعالم أو المفكّر الذي يعبِّر بالكلمة العارية، إنّه يعبِّر بالصورة والإشارة والرمز.
[1]إبراهيم رماني. الغموض في الشعر العربي. الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، لاط، لات، ص85.
[2]إبراهيم رماني. م ن، ص85.
[3]إبراهيم رماني. م س. ص85.
[4]أدونيس. مقدمة الشعر العربي. بيروت، دار العودة، لاط، 1971م، ص58.
إنَّ الصورة الشعرية كائن حي يتغذّى على أنساق الحياة في كلِّ عصر من قوالب موسيقية ولغوية، بل ومن البيئة المحيطة زماناً ومكاناً، ولأنَّ اللغة كائن حي أيضاً ينمو ويتطوّر بتطوّر الأمّة، فقد لعبت اللغة دورها في خلق سياقات متجددة للصورة الشعرية.
والشعر كما تعلمون، لعب دوره في كلِّ العصور ناطقاً باسم حاضنه، فتنقّل من حضن القبيلة في الجاهلية إلى حضن الرسالة السماوية في عصر صدر الإسلام، إلى حضن الدولة الإسلامية الفاتحة في العهدين الأموي والعباسي، إلى حاضن خاص في الأندلس، ولاحقاً إبّان الحملات الصلبية ومنها إلى عصر الاستعمار، والدولة القطرية العربية التي شتت دفء حضنه بين أكثر من عنوان وطني، لكنّه ظلَّ في صحيحه ينزف باسم كلِّ الأمّة.
ولا نحتاج إلى تأكيد أنَّ كل العوامل المشكّلة للحراك التاريخي سياسياً كان أو اجتماعياً أو اقتصادياً ساهمت مباشرة في تطوير وتأطير الصورة الشعرية العربية.
‘نَّ تحديد ماهية الصورة تحديداً دقيقاً من الصعوبة بمكان، لأنَّ الفنون بطبيعتها تكره القيود، ولعلَّ هذا هو السرّ في تعدد مفاهيم الصورة وتبيانها بين النقّاد، بتعدد اتجاهاتهم ومنطلقاتهم الفكرية والفلسفية، وبالتالي أضحى للصورة مفهومان:
- مفهوم قديم لا يتعدّى حدود التشبيه والمجاز والكناية.
- مفهوم جديد يضيف إلى الصورة البلاغية: الصورة الذهنية والصورة الرمزية بالإضافة إلى الأسطورة لما لها من علاقة بالتصوير.
فالصورة الفنيّة القديمة بسيطة واضحة لا تميل إلى الغموض والتعقيد، ولا عجب في ذلك لأنَّ البيئة العربية كانت كذلك ونحن لا نطالب الشاعر بأكثر مما شاهد وصوّر.
وينبغي أن ننظر إلى الصورة من خلال عصرها وحضارتها، ومن خلال مبدعها وظروف حياته، وعلينا كذلك ألّا نحمّل النصوص الشعرية أكثر ما تطيق، وبخاصة القديمة منها، ولا نطالبها بإبداع قيم شعرية ونقديّة عرفت بعد زمان إبداعها، فالدراسة النقدية لا يكتب لها النجاح إلّا إذا انطلقت من النّص نفسه، وحافظت على محليته.
مفهوم الصورة لغة:
جاء في لسان العرب لابن منظور، مادة (ص.و.ر.) الصورة في الشكل، والجمع صور، وقد صوّره فتصوّر، وتصورت الشيء أي توهمت صورته، فتصور لي، والتصاوير: التماثيل.
قال ابن الأثير: “الصورة ترد في لسان العرب (لغتهم) على ظاهرها، وعلى معنى حقيقة الشيء وهيئته، وصورة كذا وكذا أي صفته”[6].
وأمّا التصوّر فهو “مرور الفكر بالصورة الطبيعية التي سبق أن شاهدها وانفعل بها ثم اختزنها في مخيلته، مروره بها يتصفحها”[7].
وأمّا التصوير فهو إبراز الصورة إلى الخارج بشكل فني، فالتصوّر إذاً عقلي، أمّا التصوير فهو شكلي، حيث ” أنَّ التصوّر هو العلاقة بين الصورة والتصوير، وأداته الفكر فقط، وأمّا التصوير فأداته الفكر واللسان واللغة”[8].
والتصوير في القرآن الكريم، ليس تصويراً شكلياً، بل هو تصوير شامل “فهو تصوير باللون، وتصوير بالحركة وتصوير بالتخييل، كما أنّه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل، وكثيراً ما يشترك الوصف والحوار، وجرس الكلمات، ونغم العبارات، وموسيقى السياق في إبراز صورة من الصور”[9].
مفهوم الصورة اصطلاحاً:
إنَّ الدارس للأدب العربي القديم لا يعثر على تعبير الصورة الشعرية في التراث الأدبي بالمفهوم المتداول الآن، وإن كان شعرنا القديم لا يخلو من ضروب التصوير، لأنَّ الدرس النقدي العربي كان يحصر التصوير في مجالات البلاغة المختلفة كالمجاز والتشبيه والاستعارة.
فالصورة الشعرية هي ركم أساسي من أركان العمل الأدبي، ووسيلة الأديب الأولى التي يستعين بها في صياغة تجربته الإبداعية، وأداة النقد المثلى التي يتوسّل بها في الحكم على أصالة الأعمال الأدبيّة وصدق التجربة الشعرية. فالصورة الشعرية هي جوهر العمل الشعري، وهي ذات الشاعر التي تتحقق موضوعياً في الصورة أكثر مما تتحقق في أي عنصر آخر من عناصر البناء الشعري. فهي لم تنل نصيبها من الدراسة، ولم تستوفِ حقها من التحليل، بل لا يزال المصطلح غامضاً عند الكثير من النقّاد والدارسين، ومرد هذا عائد إلى طبيعة المصطلح وارتباطه وتداخله مع مصطلحات أخرى مثل الصورة الأدبية/الصورة الفنيّة/الصورة البلاغية/الصورة البيانية/الصورة المجازية. ناهيك عم
[5]سيد قطب. النقد الأدبي أصوله ومناهجه. بيروت، دار الشروق، ط5، 1983م، ص58.
[6]ابن منظور. لسان العرب. بيروت، دار لسان العرب، مادة ص. و. ر.، 2/492.
[7]صلاح عبد الفتاح الخالدي. نظرية التصوير الفنّي عند سيد قطب. الجزائر، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، لاط، 1988م، ص74.
[8]مجلّة الرسالة-المجلّد الثاني. السنة الثانية، العدد 64، تاريخ 24/9/1934، ص33.
[9]صلاح عبد الفتاح الخالدي. نظرية التصوير الفني عند سيد قطب. ص33.
تشعب مفاهيمه وتعدّد مقاصده المنبثقة عن المذاهب الأدبية والمناهج النقدية المتعددة، وتطور الحقول المعرفية التي يتكئ عليها النقد الحديث في تقييمها.
ليس من السهل، ولا من الموضوعية، والروح العلمية أنَّ قول نعم أو لا، ما لم نقم فهاً حقيقياً للمصطلح نفسه، كي يتسنّى لنا البحث، ويتاح له إدراك قضاياه ودلالاته إدراكاً يتناسب والظروف التاريخية والحضارية للعصر، ما لم نبتعد عن تقصّي الدلالة الحرفية للمصطلح بمفهومه المعاصر في نقدنا القديم. بهذا الشكل يمكننا أن نذهب مذهب الدكتور جابر عصفور في أنّنا “قد لا نجد المصطلح بهذه الصياغة الحديثة في التراث البلاغي والنقدي عند العرب، ولكنَّ المشاكل والقضايا التي يثيرها المصطلح الحديث ويطرحها، موجود في التراث، وإن اختلفت طريقة العرض والتناول، أو تميزت جوانب التركيز ودرجات الاهتمام”[10]
الصورة الشعرية بين الدراسة والنقد:
حظي موضوع الصورة الشعرية من قبل الدارسين والنقّاد في هذا العصر ما لم يحظَ به أي موضوع من موضوعات الشعر كاللغة والإيقاع والتجربة، فلا يكاد يخلو كتاب في الشعر أو الأدب أو النقد من الحديث عنها، كما أنَّ المكتبات العربية تحتفل بعدد كبير من الكتب التي تتصدّر عناوينها الصورة الشعرية، منها ما حفل بالجانب التنظيري، وحاول تقديم مقاربة لماهيّة الصورة، وأنماطها، ووظائفها، ومصادرها وعلاقتها بسائر الاتجاهات الأدبية والنقدية والفكرية المعاصرة، ومنها ما عالج موضوع الصورة من خلال نتاج هذا الشاعر أو ذاك، ناهيك عن كم هائل لا حصر له من الدراسات والبحوث المبثوثة في المجلات والدوريات الأدبية والنقدية، فضلاً عن الرسائل الجامعية التي لا تزال مخطوطة.
لذا يمكن الجزم بأنّ موضوع الصورة الشعرية يشكّل حقلاً معرفياً خصباً في مجمل النتاج النقدي العربي المعاصر، حيث أنّه يحفل بعدد من الرؤى المختلفة حول مفهوم الصورة، وقد تباينت هذه المفاهيم تبايناً وصل في بعض الأحيان إلى درجة التناقض، مما دفع أكثر من باحث إلى الإقرار باستحالة وضع مفهوم محدّد للصورة، وإلى القول بأنَّ للصورة مفاهيم بعدد النقاد الذين درسوها.
فالصورة الشعرية من حيث حضورها في لغة القصيدة هي مجموعة من الاستعمالات اللغوية، منها التشبيهات والمجازات والكنايات والتشخيصات والتجسيدات والتجريدات،
[10]جابر عصفور. الصورة الفنيّة في التراث النقدي والبلاغي عند العرب. بيروت، المركز الثقافي العربي، ط3، 1992م، ص7
وغيرها من العناصر التي تقوم بمثل الدور التعبيري الذي تؤديه هذه الوحدات البلاغية في القصيدة، وتكمن الملاحظة في هذا المجال، أنَّ بعض هذه العناصر الصورية قد يكون انزياحاً، وبعضها قد لا يتوافر فيه مثل هذا البعد الانزياحي. كما تجب الإشارة إلى أنَّ ثمّة أشكالاً بيانية من تشبيه واستعارة وكناية وغيرها ترادف في اجتماعها مصطلح الصورة عند الشكليين، لا يستطيع الباحث في الصورة الشعرية أن يتجاهل حقيقتين لا بدَّ من أخذهما بعين الاعتبار:
الحقيقة الأولى: وهي أمَّ الصورة الشعرية تحتل عناوين عدد كبير من الكتب والدراسات، ناهيك عم كتب النقد الأدبي التي قلّما تتصفّح أحدها دون أن تقع على صفحات قد تصل إلى فصل في بعض الأحيان أو أكثر، تعالج موضوع الصورة الشعرية. فهل يمكن أن نعالج هذه المسألة دون أن نقع في التكرار؟
أما الحقيقة الثانية: فهي الاتساع الكبير الذي بلغه الحقل الدلالي (صورة)، فعندما يغوص الباحث في بحثه، يجد نفسه أمام مفاهيم متنوعة، لا بل متناقضة في بعض الأحيان، وربما يصل إلى التعمية مع هذه الكلمة التي تعددت مناحيها واتجاهاتها.
لقد اتفق العرب الأوائل على أنَّ وظيفة الصورة الشعرية، هي وظيفة بلاغية بيانية، تهدف إلى الإفهام والتوضيح والإيحاء. لذلك لا بدَّ لها من أدوات تساعدها على تحقيق وظيفتها. هذه الأدوات هي التشبيه والكناية والاستعارة. فالصورة الشعرية قرينة الشعر، وإن لم تكن مدركة بهذا الاسم، وقد استمدَّ الشاعر أركانها من طبيعة الحياة والبيئة التي عاش فيها. غير أنّها وفي هذا العصر الحديث، أصبحت متربعة على عرش الشعر، تعكس خيال الشاعر وتسمو بثقافته وفنّه.
فالقصيدة نفسها سلسلة من الصور الجزئية المتداخلة، والجيدة منها بدورها صورة، والصورة هي التي تكسب الشعر قدرته على التأثير والتجاوز، كما تمنحه ميزة “تجاوز محاولات شرحه وتحليله، فضلاً عن إعادة تركيبه بعبارات نثرية وإن حاولت الحفاظ على المعنى”[11].
والشاعر بدوره يقيّض على المعاني الكثيرة، والأسئلة الكبرى التي لا حدّ لاتساعها في وجدان المتلقي، ويحشدها في بضعة أسطر، يمتاز الشعر الحديث بأنّه يتشكّل من أسراب من الصور المتراكبة التي يصعب علينا أن نحكم بنهاية إحداها وبداية الأخرى، ويبرر
[11]مخائيل أوفيسيانيكوف. مشكلات علم الجمال الحديث قضايا وآفاق. ترجمة فريق من دار الثقافة الجديدة، القاهرة، دار الثقافة الجديدة، لاط، 1979م، ص164.
كولردج لذلك بقوله: “إنَّ الشاعر يرى هدفه الرئيس وأعظم خاصية لفنّه هو الصورة الجديدة المؤثرة”، وهو رأي صدق على الشعر في عصر كولردج ويصدق على الشعر حتى اليوم، لكن للصورة اليوم دوراً أبرز وأهم مما كانت عليه بالأمس، فشاعر العصر الحديث قد “وجد نفسه ووعى ذاته، واعتز بكرامة عقله وفكره ولسانه، فلم يساوم عليها في سوق النفعية والنفاق، فبلغ الذاتية الاجتماعية حين نطق بلسان الجماعة، وتمرّد نيابة عنها على الطغيان والنفاق والرّق المادي والمعنوي، وضرب لنا مثلاً فذّاً رائعاً للالتزام في الأدب، ورسالة الأديب الذي لا يفقد وعيه في دوامة الأبصار، ولا يخطئ طريقه في دجى الظلمات، ولا تغفل عينه والناس نيام”[12].
ومع ذلك فإنَّ الصحوة بدأت بالهجوم على المحسنات اللفظية والبلاغية الواضحة المباشرة، والعبارة العاطفية الهدارة، وقد دفع هذا الهجوم المتمرّد بالشعراء الجدد إلى محاولة “التعويض عن هذه العناصر المثيرة في الشعر بالإكثار من الصورة الشعرية، وكانوا يعانون فوق ذلك من تعقيدات عاطفية وفكرية وروحية، تلزمهم بها اللحظة الحضارية التي بدت كأنها تخترق بوابة الزمن نحو تقرير أنبل لوضعية الانسان في هذا الجزء من العالم، ولم يكن بإمكانهم أن يعبروا عن هذه الحالات المعقدة عن طريق الشعر المباشر، فلجأوا إلى الأمور والأساليب الموارية من أسطورة وفلكلور وإشارة ورمز، وقد ساعدهم تأثرهم بالشعر الغربي المعاصر الغني بالصورة في اجتياز العقبة من الأساليب القديمة نحو أسلوب جديد حي يتنفس بروح العصر الحديث”[13].
وهذا بالإضافة إلى ما وجدوه من نماذج مهمّة للصورة في الشعر العربي القديم، وقد علّق الدكتور محمد حسن عبد الله أنَّ “البداية الحقيقية للشعر الحديث لم تكن هي الثورة على عروض الخليل، وإنّما كان الشعر الحديث هو ذلك الشعر الذي نهج منهج الصورة، وبذلك يجعل من مطران الأب الحقيقي لحركة التجديد في الشعر الحديث، لأنّه من أوائل الذين اكتشفوا أماكن جديدة ووظائف مغايرة للصورة بوصفها عنصراً من عناصر البناء الشعري، ثم الصورة القصيدة بشكل عام.
إنَّ دراسة ذلك الدور وتلك الوظيفة اللذين تضطلع بهما الصورة الفنية في الشعر بمقدورهما أن يلقيا من الضوء على الشعر ما لا تلقيه دراسة أي جانب آخر من عناصره، فالصورة كما يراها لويس Cecil Day Lewis في كتابه “الصورة الشعرية” هي العنصر
[12]عائشة عبد الرحمن. قيم جديدة في الأدب العربي. مصر، دار المعارف، لاط، لات، ص64.
[13]سلمى الخضراء الجيوسي. الشعر العربي المعاصر تطوره ومستقبله. مجلة عالم الفكر الكويتية، يوليو-سبتمبر،1973م، عدد2، مج4، ص48-49.
الثابت في الشعر كلّه، وكل قصيدة إنما هي في ذاتها صورة. والمقصود في ذلك إنّ الاتجاهات تجيء وتذهب، والأسلوب يتغيّر، وأنماط الأوزان تتبدّل، ولكنّ التعبير بالصورة هو الخاصية الأساسية منذ تكلّم الإنسان البدائي شعراً، ولعلّ هذا الرأي يستند إلى أنّ المجاز هو اللغة الإنسانية الأولى، وهو الرأي الذي ألحّت عليه الدراسات النقدية منذ قرر أرسطو أن الاستعارة أعظم أسلوب لأنّها وحدها هي “آية الموهبة”[14]، وفي الثقافة العربية منذ أن رأى الجاحظ أنَّ الشعر “صياغة (أو صناعة) وضرب من النسيج وجنس من التصوير”[15].
فالتصوير كما يرى أرسطو صورة متسامية عن الحقيقة، وإذا لم يطابق التصوير الحقيقية، فذلك أنَّ الشاعر مثل الأشياء كما ينبغي أن تكون، كما كان سوفوكليس يقول ” إنّه يصوّر الناس كما ينبغي أن يكونوا، في حين أن أوروبيدس يصورهم كما هم”[16].ولعلَّ من الأهمية بمكان ” تحديد موقع الصور الفنيّة في البلاغة العربية والنقد القديم، ومدى ما آلت إليه من مفاهيم، رسّخت في أذهان القدماء، فراحوا ينظرون من خلالها إلى الأعمال الشعرية”[17].
فقد كانت الصورة جزءاً أصيلاً، بل إنّها نقطة انطلاق مهمّة في حركات التجديد الشعري، على مدى العصور، إلى جانب عناية النقاد بها عناية مخصوصة، ونضرب مثلين لذلك الاهتمام النقدي أحدهما من النقد القديم والآخر في العصر الحديث، فمن النقّاد العرب برز اسم الإمام عبد القاهر الجرجاني بوصفه أهم من درس الصورة، بل إنّه يكاد يكون قد أفرد لها كتابه أسرار البلاغة، كما أفرد للنظم دلائل الإعجاز، إن لم يكن يعني ضمناً في نظرية النظم موطن الصورة من النّص. لقد عالج الإمام عبد القاهر الجرجاني التصويرات في كتابه أسرار البلاغة، من حيث هي فنيّة مشتركة بين الشعر والفنون التشكيلية، وأثر تلك الصور في إثارة النفس وتجسيد الدلالة، فيقول ” الصفة في التصويرات التي تروق السامعين وتروعهم، والتخييلات التي تهزُّ الممدوحين وتحرّكهم، وتفعل فعلاً شبيهاً بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير التي يشكلها الحذّاق بالتخطيط والنقش، أو بالنحت والنقر، فكما أن تلك تُعجب وتخلب وتروق وتؤنق، وتدخل النفس من مشاهدتها حالة غريبة لم تكن قبل رؤيتها، ويغشاها ضرب من الفتنة لا يُنكر مكانه ولا يخف شأنه…، كذلك حكم الشعر فيما يصنعه من الصور، ويشكّله من البدع، ويوقعه في النفوس من المعاني التي يتوهّم بها
[14]شكري عياد. كتاب أرسطو طاليس في الشعر. القاهرة، هيئة الكتاب، لاط، 1993م، ص128.
[15]الجاحظ. الحيوان. تحقيق عبد السلام هارون. القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة. لاط، 2002م، ص12.
[16]شكري عيّاد. كتاب أرسطو طاليس في الشعر. ص144.
[17]عبد الله التطاوي. الصورة الفنيّة. القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، لاط، لات، ص15.
الجماد الصامت في صورة الحي الناطق، والموات الأخرس في قضية الفصيح المعرب والمبيّن المتميّز، والمعدوم المفقود في حكم الموجود المشاهد…، حتى يكسب الدنيّ رفعةً، والغامض القدر نباهة، وعلى العكس يغض من شرف الشريف، ويطأ من قدر ذي العزة المنيف، ويظلم الفضل ويتهضّمه، ويخدش وجه الجمال ويتخونه، ويعطي الشبهة سلطان الحجة، ويردّ الحجة إلى صيغة الشبهة، ويصنع من المادة الخسيسة بدعاً تغلو في القيمة وتعلو، ويفعل من قلب الجواهر وتبديل الطبائع ما ترى به الكمياء وقد صحّت، فدعوى الإكسير وقد وضّحت، إلا أنّها روحانية تتلبّس بالأوهام والافهام، دون الأجسام والأجرام”[18].
ثم يوسّع الإمام عبد القاهر الدائرة ويعمّق رؤيته للتصوير الفني في كتابه دلائل الإعجاز الأرقى فكراً والأعمق نظراً، والأهم والأغنى رؤية واستقصاءً وبحثاً، وقد بدا لي أنَّ الجرجاني كان في أسرار البلاغة يصنع ما هو أشبه بدراسة لوحة النظم من خلال نظريته في الصورة، فبعد أن أحاط علماً وإدراكاً بفكرة التصوير في أسرار البلاغة طوّر تلك الفكرة إلى فكرة أكبر وأشد اتساعاً، يجوز لنا أن نسميها نظرية، هي نظريته في النظم التي أفادت من أفكار نظريته في التصوير وتحليلاتها وجزئياتها وتطلعاتها النظرية عنده، قمّ أدمجت الفكرة الأوليّة عند التصوير في الفكرة الأكبر والأهم حول النظم، يقول الإمام عبد القاهر الجرجاني ” إنّما هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تحمل منها الصورة والنقوش، فكما أنك ترى الرجل قد تهدى في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخيير والتدبير في أنفس الأصباغ، وفي مواقعها، ومقاديرها، وكيفية مزجه لها، وترتيبه إياها، إلى ما لم يهتد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب، كذلك حال الشاعر والشاعر في توخيهما معاني النحو، ووجوهه التي علمت أنّها محصول النظم، وبها تظهر المزيّة في نظمه والحسن”[19].
ويتبيّن لنا من هذا بأنَّ الجرجاني قدّر أنه لا قيمة للتصوير إذا لم يكن منسجماً مع سياق النّص، بل إنّ الجرجاني تطرّق إلى الجذور النفسية للصورة في نفس قائلها والآثار المتوقعة في نفس سامعها، مع اهتمام الامام عبد القاهر الدائم بالأثر الجمالي الذي تتركه الصورة على النّص سعياً وراء ما يتركه النّص بوساطتها من أثر في وجدان المتلقي، لذا ألحَّ عبد القاهر على المقارنة بين الصور المتماثلة والمتقابلة.
[18]عبد القاهر الجرجاني. أسرار البلاغة. تحقيق. ه. ريتر. استانبول، مطبعة وزارة المعارف،ط6،1959م، ص275-276.
[19]عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز. القاهرة، دار المعرفة، لاط، لات، ص69.
أما من العصر الحديث، فالواقع أنني تخيرت النقد لا الناقد، ففي كتاب الديوان نجد أنَّ العقّاد وقد تخير الصورة منطلقاً للنيل من شوقي، فقال في حملته عليه: ” إنَّ الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها… فليست مزية الشاعر أن يقول عن الشيء ماذا يشبه، وإنّما مزيته أن يقول ما هو، ويكشف عن لبابه وصلة الحياة به… فالتشبيه هو أن تطلع في وجدان سامعك وفكره صورة واضحة مما انطبع في ذات نفسك، وما ابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان، فإنَّ الناس جميعاً يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما نراها، وإنّما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان، فإنَّ الناس جميعاً يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما نراها، وإنّما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس. وبقوة الشعور وتيقظه وعمقه واتساع حداه ونفاذه إلى صميم الأشياء. يمتاز الشاعر على سواه، ولهذا لا لغيره كان كلامه مطرباً مؤثراً وكانت النفوس تواقة إلى سماعه واستيعابه، لأنّه يزيد الحياة حياة كما تزيد المرآة النور نوراً. فالمرآة تعكس على البصر ما يضيء عليها من الشعاع فتضاعف سطوعه والشعر يعكس على الوجدان ما يصفه فيزيد الموصوف وجوداً، إن صحَّ هذا التعبير، ويزيد الوجدان إحساساُ بوجوده، وصفوة القول: إنّ المحك الذي لا يخطئ في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره: فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كنت تلمح وراء الحواس شعوراً حيّاً ووجدانياً تعود إليه المحسوسات كما تعود الأغذية إلى الدم، ونفحات الزهر إلى عنصر العطر فذلك شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية”[20].
زمن هنا نستطيع القول بأنَّ النقّاد والبلاغيين العرب ربطوا بين الصنعة الشعرية والصورة، وجعلوا من التخيل والإلهام عماداً للصورة، من خلال إدراكهم الشامل للارتباط القائم بين مادة الشعر والتصوير، كما نقول أيضاً أنّ النقّاد وعلماء البيان فرقوا بين الحقيقة والمجاز، وذلك أنَّ” الحقيقة عندهم ترتهن بالكلمة المستعملة فيما وضعت له، في اصطلاح التخاطب والتفاهم، والمجاز ما استعمل فيما لم يكن موضوعاً له، على سبيل الاتساع والعدول باللفظ عن الظاهر، وكذلك كانت الكناية بين أساليب التعبير غير المباشر، وهي لفظ أريد به لازم معناه”[21].
[20]العقاد. الديوان في الأدب والنقد. القاهرة، هيئة الكتاب، لاط، لات، ج1، ص45-46.
[21]عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز. ص382-383.
كما أنّه من المستحيل الحديث عن الاستعارة والتمثيل دون تصوّر أنّ هذه تحدث عن تأليف العبارة، وما يكون لهما من حُسن إنّما يكون” بالمسلك الذي سُلك في النظم والتأليف”[22].
إنَّ اللغة الشعرية التي تجعل من الصورة أساساً لها، تصبح وسيلة تواصلية مسعفة في التعبير عن أية حال أو رؤية تعبّر عن وجدان الشاعر وذهنه، بل تمكّنه من طريقة سحرية في الإيحاء بالشيء الذي يجعل المتلقي قادراً على التقاط الإشارات وتحويلها إلى دلالات قد تضيق أو تتسع حسب طبيعة مرجعية المتلقي، وقدرته على التأويل.
مفهوم الصورة عند القدماء:
لقد كانت ولا تزال الصورة الشعرية موضوعاً مخصوصاً بالمدح والثناء، ولها من الحظوة بمكان، والعجيب أن يكون هذا الموضوع ينتمي إلى عصور وثقافات متعددة ومتنوعة، فهذا أرسطو يميزها عن باقي الأساليب بالتشريف، فيقولك ” ولكن أعظم الأساليب حقاً هو أسلوب الاستعارة… وهو آية الموهبة”[23].
ويعتمد أرسطو في ربط الصورة بإحدى طرق المحاكاة الثلاث، ويعمّق الصلة ويوثّقها بين الشعر والرسم، فإذا كان الرسّام فناناً يستخدم في عمله الريشة والألوان التي تشكّل أدوات عمله، فإنَّ الشاعر يستعمل المفردات والألفاظ ويطوّعها ويصوغها في قالب فنّي مؤثّر يترك أثره في المتلقي.
وحتى تكون الصورة حيّة في النّص الأدبي، لها ما لها من مفعول وتأثير، فلا بدَّ لها من خيال يخرجها من النمطية والتقرير والمباشرة، فالخيال هو الذي يحلّق في الآفاق الرحبة، ويخلق له دنيا جديدة، وعوامل لا مرئية تخرجه من العزلة والتقوقع. وحسب رأي سقراط الخيال نوع من الجنون العلوي، وبالنسبة لأفلاطون الأمر نفسه باعتقاده ” أنَّ الشعراء مسكونون بالأرواح من الممكن أن تكون خيّرة كما يمكن أن تكون أرواحاً شرّيرة”[24].
فالشاعر مهووس، وعلاقته لها ارتباط بالأرواح والجن، وله أثره في الشعر العربي القديم، فالشعراء القدماء المجيدين تنسب إليهم بأنَّ أرواحهم ممزوجة بأرواح الجن، وهذا النسب يعود إلى وادي عبقر، وإنّ لكل شاعر شيطانه الذي يسانده ويلهمه. وكان للفلسفة اليونانية
[22]عبد القاهر الجرجاني. دلائل الاعجاز. ص83.
[23]أرسطو. فن الشعر. ترجمة محمد شكري عياد، القاهرة، دار الكتاب العربي، 1967م، ص128.
[24]إحسان عباس. فن الشعر. بيروت، دار الثقافة، ط2، 1959م، ص141.
الدور الأهم عند العرب في أخذهم لمفهوم الصورة، وبالذات الفلسفة الأرسطية. وأبو الهلال العسكري يعلنها صراحة “الألفاظ أجساد والمعاني أرواح”[25].
أمّا أبو عثمان الجاحظ فيرى” أنَّ المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، وإنّما الشأن إقامة الوزن وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء في صحة الطبع وجودة السبك، وإنّما الشعر صياغة وضرب من التصوير”[26].
ويرى الدكتور فايز الداية أنَّ السكاكي في كتابه مفتاح العلوم اهتمّ كثيراً بالتعريفات، وأهمل الأصول وكذا النصوص الإبداعية، فكانت جهود السكاكي رغم أهميتها عبارة عن تقنين وتعقيد بعيداً عن جوهر البلاغة وروحها. وهذا ما يلاحظه كثير من علماء البلاغة الذين جاءوا من بعد السكاكي، وكل دارس تعامل مع الكتب البلاغية القديمة “وهذا مما أثّر سلباً في الإنتاج الأدبي الذي لم يجد من يقوّمه ويبيّن ألقه”[27].
وفي هذا الجو ضاعت المفاهيم البلاغية الجوهرية، واختلطت فيه القيم النقدية، ووضع عبد القاهر الجرجاني القواعد الأساسية في البناء النقدي العربي من خلال فهمه لطبيعة الصورة، التي هي عنده مرادفة للنظم أو الصياغة، فعبد القاهر الجرجاني في نظريته (النظم) لا تُعنى برصف الألفاظ بعضها بجانب بعض، بقدر ما تعني توخي معاني النحو التي تخلق التفاعل والنماء داخل السياق.
فالصورة حسب عبد القاهر الجرجاني ونظريته مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالصياغة، وليس غريباً أن يراوح النقد العربي مكانه، ويهتم بالشكليات والتعريفات والتقنين والتعقيد لمختلف العلوم وبخاصة البلاغية منها، والجاحظ يرى أنَّ الأسطورة ضرب من التصوير، بينما قدامة بن جعفر فتح الباب واسعاً أمام المنطق في الشعر. وبالتالي فإنَّ الصورة قد تأثرت بالثقافة النقدية، وهي غاية وليست وسيلة لفهم الشعر، وإبراز جمالية المتلقي.
مفهوم الصورة عند الغربيين:
يعرّف الشاعر الفرنسي بيار ريفاردي وهو من المدرسة الرومانتيكية لفظة صورة IMAGE بأنّها ” إبداع ذهني صرف، وهي لا يمكن أن تنبثق من المقارنة، وإنّما تنبثق من
[25]أبو الهلال العسكري. الصناعتين الكتابة والشعر. تحقيق مفيد قميحة، بيروت، دار الكتب العلمية، ط2، 1984م، ص167.
[26]الجاحظ. الحيوان. تحقيق عبد السلام هارون. القاهرة، مكتبة الخانجي، ط3، لات، ص131-132.
[27]فايز الداية. جماليات الأسلوب. بيروت، دار الفكر المعاصر، ط1، 1990م، ص13.
الجمع بين حقيقتين وافعيتين تتفاوتان في البعد قلة وكثرة، ولا يمكن إحدث صورة المقارنة بين حقيقتين واقعيتين بعيدتين لم يدرك ما بينهما من علاقات سوى العقل”[28].
فالصورة عند الرومانسيين بشكل عام هي ابداع ذهني تعتمد أساساً على الخيال، والعقل وحده هو الذي يدرك علاقاتها.
وترتبط الصورة بالخيال ارتباطاً وثيقاً فبواسطة فاعلية الخيال ونشاطه ” تنفذ الصورة إلى مخيلة المتلقي فتنطبع فيها بشكل معيّن وهيئة مخصوصو ناقلة إحساس الشاعر تجاه الأشياء، وانفعاله بها، وتفاعله معها”[29].
وللمدارس الأدبية الحديثة نظرتها الخاصة إلى الصورة ” فالبرناسية لا تعترف إلّا بالصورة المرئية المجسمة بعيداً عن نطاق الذات الفردية. وأمّا الرمزية فهي لا تقف عند حدود الصورة كالبرناسية، ولكنّها تطلب أن يتجاوزها الفنان، إلى أثرها في أعماق النفس أو اللاشعور وبالتالي ابتدعوا وسائلهم الخاصة في التعبير كتصوير المسموعات بالمبصرات، والمبصرات بالمسموعات، وهو ما يسمى بتراسل الحواس. واهتمت السريالية بالصورة على أساس أنّها جوهر الشعرية ولبّه، وجعلت منها فيضاً يتلقاه الشاعر نابعاً من وجدانه، وبذلك تبدو الصورة خيالية وحالمة. وأما الوجودية نظرت إلى الصورة على أنّها عمل تركيبي يقوم الخيال ببنائها”[30].
مفهوم الصورة عند العرب المحدثين:
لقد توسّع مفهوم الصورة في العصر الحديث إلى حد ” أنّه أصبح يشمل كل الأدوات التعبيريّة مما تعودنا على دراسته ضمن علم البيان والبديع والمعاني والعروض والقافية والسرد وغيرها من وسائل التعبير الفنّي”[31].
وظهر عند عبد القادر القط أنَّ “الشكل الفنّي الذي تتخذه الألفاظ والعبارات ينظمها الشاعر في سياق بياني خاص ليعبّر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكامنة في القصيدة، مستخدماً طاقات اللغة وإمكاناتها في الدلالة والتركيب والإيقاع والحقيقة والمجاز والترادف
[28]محمد غنيمي هلال. النقد الأدبي الحديث. بيروت، دار العودة، لاط، 1973م، ص168.
[29]مجدي وهبة. معجم مصطلحات الأدب. بيروت، مكتبة لبنان، لاط، 1974م، ص237.
[30]الأخضر عيكوس. الخيال الشعري وعلاقته بالصورة الشعرية. مجلّة الآداب. عدد1، 1994م، ص77.
[31]الولي محمد. الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي. بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990م، ص10.
والتضاد والمقابلة والتجانس وغيرها من وسائل التعبير الفني… والألفاظ والعبارات هي مادة الشاعر الأولى التي يصوغ منها ذلك الشكل الفني أو يرسم بها صوره الشعرية”[32].
لم يعد مفهوم الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث ضيّقاً أو قاصراً على الجانب البلاغي فقط، بل اتسع مفهومها، وامتدّ إلى الجانب الشعوري الوجداني غير أنَّ مصطلح الصورة الشعرية لم يستعمل بهذا المعنى إلّا حديثاً، فهو عند مصطفى ناصيف يستعمل للدلالة على كلِّ ما له صلة بالتعبير الحسّي. وتطلق أحياناً مرادفة للاستعمال الاستعاري للكلمات. ويقول في موضع آخر ” إنَّ لفظ الاستعارة إذا أُحسن إدراكه قد يكون أهدى من لفظ الصورة”[33].
ويعقّب الأستاذ أحمد علي دهمان على تعريف الدكتور مصطفى ناصيف للصورة قائلاً ” إنّه قَصَرَ الدلالة على الاستعمال المجازي، مع أنَّ كثيراً من الصور لا نصيب للمجاز فيها، وهي مع ذلك صور رائعة، خصبة الخيال، ثرّة العاطفة، وتدل على قدرة الأديب على الخلق أيضاً”[34].
وهي عند الدكتور نعيم اليافي ” واسطة الشعر وجوهره، وكل قصيدة من القصائد وحدة كاملة، تنتظم في داخلها وحدات متعددة هي لبنات بنائها العام، وكلّ لبنة من هذه اللبنات تشكِّل مع أخواتها الصورة الكليّة التي هي العمل الفنّي نفسه”[35].
الصورة الشعرية بيت الجمالية والانزياح عن المألوف:
إنّ سلطة المبدع تستمد من جمالية اللغة الشعرية وبلاغة النّص باعتبارها البناء العام للمضمون من جهة، وتحاول خرق المألوف من ناحية ثانية.
ولكنَّ المشاركة الإيجابية في تفعيل النّص وتشكيل الرؤية الجمالية له، عائد إلى الأثر التي تركته اللغة في المتلقي، كأن يتعامل المبدع مع صور تقليدية دون محاولة التجديد. لكن ما فائدة هذا العمل إذا كان القصد من النّص الإبداعي استمالة المتلقي ودغدغة عواطفه النائمة؟
[32]عبد القادر القط. الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر. بيروت، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، ط2، 1981م، ص391.
[33]مصطفى ناصيف. الصورة الأدبية. بيروت، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، 1983م، ص5.
[34]أحمد علي دهمان. الصورة البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني. مصر، مصر العربية للنشر والتوزيع، ط2، 2000م، ص269-270.
[35]نعيم اليافي. مقدمة لدراسة الصورة الفنيّة. دمشق، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، لاط، 1982م، ص39-40.
إنَّ علاقة المتكلّم المبدع، والمستمع المتلقي، تحكمها استراتيجية خاصة، لا تنفك أن تكون هي المحقّة للتفاعل والانسجام. لكن حين تنجلي هذه العلاقة يتورّط الاثنان في متاهة التضليل. قد يكون الأصل في الكلام. فالقول الشعري هو التضليل على اعتبار القصيدة رؤيا، والرؤيا غالباً ما يشوبها الغموض، لكنَّ الشاعر لا بدَّ أن يحكم سلطته الداخلية ليبني صوره الشعرية.
تبقى الصورة دائماً ذلك المتخيّل المرتبط بالقصد والجمالية. فيقول فرانسوا مورو في كتابه البلاغة المدخل لدراسة الصور البيانية ” أنَّ كلمة صورة هي واحدة من الكلمات التي ينبغي أن يستعملها الأسلوب بحذر وضبط دقيقين، إذ أنّها غامضة لكونها تسمح باستعمالها بمعنى مبهم جداً، وذلك بالنظر إلى هذا الاستعمال من منظور أسلوبي خاص، وغير دقيقة لأنّ استعمالها، ولو في مجال البلاغة المحصور، عائم وغير محدّد بدقة”[36].
وهذا النّص يدل على أنَّ المبدع يتعامل مع الصورة بحذر شديد، فيتجنّب في غالب الأحيان ما هو بعيد عن الدلالة العقلية كي يبرز قدرته على مماثلة الثابت دون اللجوء إلى ابتداع الجديد/المتحوّل.
هذا من منظور تقليدي، لكنّه يختلف مع الشاعر الذي يستطيع مغالطة الواقع، وتحويل النظرة العادية إلى صيغة مماثلة للعادي، ويصير بذلك غير المألوف مألوفاً، وغير العادي عادياً. بمعنى أنَّ المبدع بتحويلاته المتكررة في إبداعاته يحوّل النظر إليه من طرف المحلل والمحلل الأسلوبي فينتج المعاني الجديدة التي يستسيغها الكل وتصبح في أفق التقبّل.
ولعلَّ الاستعارة هي التي تحقق التفاعل الدلالات البعيدة وبعيداً على التعقيب، باعتبارها تحقق التفاعل الدلالي، وتنشء العلاقة الرسمية بين المرسل والمتلقي، باعتبار أنَّ الصورة الشعرية يتوخى من ورائها تكسير النمطية قصداً، وتحقيق الجمالية فعلاً. وقد حدد كل من جون لايكوف ومارك جونس مبادئ الاستعارة، باعتبار أنَّ النظرية الدلالية سبيل الولوج لمداخل المعجمية، واستعمال الاستعارة يتبين تشكيل الخطاب الشعري، وتوضيح التجربة الشعرية التي يفرزها النّص الشعري خاصة.
إنَّ هذا الوعي النظري الذي انتقلنا فيه من الحديث عن الاستعارة إلى دورها في تشكيل النّص الشعري، لا يخرج عن مضمار بحثنا، بل بالعكس من ذلك يوطّد العلاقة القائمة بين السمة الدلالية للنّص الذي يمكن أن يصب في إحدى تعبيراته. لذلك كان لخاصية الاستعارة
[36]فرانسوا مورو. البلاغة المدخل لدراسة الصور البيانية. ترجمة محمد الوالي وعائشة جرير، المغرب، إفريقيا الشرق، 2003م، ص15.
دور في تكوين شمولية الخطاب الشعري، ويتحقق من خلال الأسس التي يُراد تكوينها في ذهن المبدع، إلى جانب الجمالية التي يحققها التحوّل الدلالي في النّص الشعري، نجد من يبتدع صفة التلذذ في الإبداع جرّاء هذه الانزياحات عن المألوف، ويتخذ من المفهوم المتجاوز صفة التحقيق الكلّي لإرادته. وهكذا يزول الابهام عن صورة الهدف الإجرائي من النّص الشعري، لا يلامس فيه المضمون إلّا باختيار تجلياته في الشكل المتوخى، واختيار إحدى المحسنات البلاغية يضفي على النّص صفة التحوّل عن العادي أو الانزياح كما اصطلح عليه في التنظيرات الغربية.
الصورة الشعرية وعلاقتها باللغة
إنَّ الصورة الشعرية هي الرسم بالكلمات، تتفاوت الألوان فيها بين شاعر وآخر، بل بين نصّ وآخر. صورة منقولة من الواقع إلى ما هو متخيل لتبهر السامع وهي عتبات القصيدة وأعمدتها التي تقف وتنتصب عليها، هي رمزيتها ودلالاتها لتتكون من مجموعها وحدة جمالية متناسقة، فلا أعتقد أنَّ نصاً يمكن أن نقول عنه أنّه قصيدة دون وجود صورة أو صور يفتح القلب لها مغاليقه، وليس رصف كلمات.
إنَّ الإيقاع هو واحد من أهم إشكاليات القصيدة الحديثة، وهو محور التبدلات التي طرأت على بنية القصيدة، ومن أكثرها تعقيداً وصراعاً منذ ولادة القصيدة وإلى الآن. هي محاولات تشكيل صوتي جديد يتناوب بين الخارج والداخل. فقد انتقلت من شعر البحور إلى التفعيلة، وانسحبت إلى الإيقاع الداخلي لقصيدة النثر. والايقاع هو التناغم الموسيقي بين نصّ وآخر في الشعر العامودي أو الحر أو النثر يعتمد على الإيقاع الكمّي الذي يعتمد على المقطع أو الإيقاع الكيفي المعتمد على النبر في الجمل أو الكلمات أو التنغيم في الأصوات، لأنّ الكلمات أنظمة صوتية يمكن أن تشكّل على وقف دلالة الاستخدام. وهذا هو سبب انتقال الشعر من النظم الخليلية إلى مستوى الشعر الحر، إلى الإيقاع الداخلي في قصيدة النثر الذي هو الموسيقى المضمرة المنبعثة من تجانس الحروف في الكلمات أو الكلمات في الجملة الواحدة. لذلك فإنَّ الإيقاع الداخلي للنّص هو بنيته الشعرية التي تميزه عن نص آخر وهو جوهر الشعرية وروحها. وقد تغلب الصورة على الإيقاع فتلك مهارة وموهبة وبراعة الشاعر.
علاقة الصورة الشعرية بالإيقاع:
الإيقاع هو تناغم صوتي وتوافق في الحركات والسكنات، يحرص على التطريب وتحسين الكلام، والإيقاع ذو أهمية عالية ومهمّة في الشعر، وكلما كان الشاعر ماهراً في الشعر كان اهتمامه بهذه الأنغام اللغوية عظيماً وجميلاً، وهذا معروف في عرف الشعراء بالوزن الذي يعتبر أول مراحل الإيقاع، كما تعدّ القافية بمثابة خواتيم إيقاعية لهذا الوزن، ولو تأملنا تعريف قدامة بن جعفر القائل بأنَّ الشعر ” كلام موزون مقفّى يدل على معنى”[37].
إنَّ هذا التعريف يتكوّن من ثلاثة أضلاع هي الوزن والقافية والمعنى، أي أنَّ الإيقاع يشكّل ثلثي هذا التعريف، فالشعر يرتكز على وزن وقافية، في الوقت الذي يقوم به الغناء على نغم وإيقاع، وعلى هذا الأساس، لا بدَّ من استقامة الشعر التي تأتي من استقامة المقاطع، في المقابل لا يستقيم الغناء إلّا إذا استقامت المقاطع النغميّة فيه، وعليه نقول: إنَّ الشعر عبارة عن وحدات تفعيلية متساوية على جانبي البيت الشعري، والغناء هو كذلك عبارة عن وحدات إيقاعية نغمية متساوية أيضاً.
أ-مفهوم الإيقاع الخارجي:
ربط العرب القدماء منذ العصر الجاهلي بين الموسيقى والايقاع، وذلك حتى يستقيم وزن البيت، وتنظيم أبيات القصيدة. والوزن هو وزن الشيء. وفي الشعر هو المسار الأفقي في القصيدة. بينما تعتبر القافية المسار العمودي فيها، ويعتبر الوزن في القصيدة أهم الأسس الإيقاعية في البناء الهيكلي للنّص الشعرين إذ يتكوّن الوزن في البيت الشعري كما هو معروف من عدد معيّن من التفاعيل، تكون متساوية الايقاعات والنغمات على طرفي البيتين وهو في القصيدة بمثابة العمود الفقري الذي لا يمكن أن تكون القصيدة قصيدة من دونه، غير أنَّالعرب القدماء لم يفهموا أنَّ الإيقاع مرتبط بالشعر. فها هو الإمام السيوطي في معرض دفاعه عن الرسول صلى الله عليه وسلّم يقول ” لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع، إلّا أنَّ صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنغم، وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة، فلما كان الشعر ذا ميزان يناسب الإيقاع، والإيقاع ضرب من الملاهي لم يصلح ذلك لرسول الله”[38].
وهذا التعريف بين الإيقاع والعروض يدل على أنَّ مسألة الفصل فيما بينهما واضحة، وأنّهم لم يفهموا من الأمر إلّا ما يخص الموسيقى والطرب والغناء.
[37]قدامة بن جعفر. نقد الشعر. بيروت، دار الكتب العلمية، لاط، لات، ص13.
[38]جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. المزهر في علوم اللغة وأنواعها. بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1998م، مج2، ص470.
ب-مفهوم الإيقاع الداخلي:
يعتبر علم البديع بما لديه من تعريفات رافداً معنوياً في تشكيل الصورة الشعرية عند الشاعر، وفي نفسية المتلقي، حيث تكون عند الشاعر من خلال مدى علاقته باللغة، وبمدى تمكّنه من تحسين الكلام، وعند المتلقي عن طريق قوة ترسيخ المعنى وتقوية الفكرة لديه، وكما قال عبد القاهر الجرجاني بأنَّ ” الألفاظ خدم المعاني”[39]، أي أنّها تخدم المعنى الذي يريد الشاعر الوصول إليه، إذ أنَّ هذه الألفاظ تمنح الشاعر فرصة سانحة لإيصال الأسلوب التعبيري الذي يراه مناسباً من أجل إيصال المعنى إلى المتلقي، كما أنّها تعكس لنا عاطفة الشاعر أثناء الرضا أو أثناء السخط، وذلك من خلال الإيقاع الداخلي الذي يوضّح لنا نفسية الشاعر أثناء قيامه بعمل هذا النّص أو ذاك.
ومن هنا يمكننا أن نستخلص بأنَّ علم البديع مرتبط بالإيقاع الداخلي للبيت الشعري، وهذا الإيقاع الداخلي هو عبارة عن أصوات نغمية تحدث داخل النّص الشعري لا علاقة لها بالوزن أو القافية، وإنّما تعتمد على حسن التراكيب وجودة الألفاظ واستقامة إنسيابية الجمل الشعرية، وهي التي تدخل ضمن أبواب علم البديع بشقّيها اللفظي والمعنوي.
إنَّ الإيقاع كما هو معلوم مرتبط بالفن الموسيقي والألحان الغنائية، إلّا أنّه تمَّ إدخاله إلى الشعر من خلال الاعتماد على الجانب اللغوي، فكما أنَّ النغمة الموسيقية تطرب الأذن، وتثير المشاعر، أصبحت المفردة الشعرية وكذلك الجملة الشعرية أيضاً تشعر المستمع بالراحة، وتدفعه إلى الشعور بالضرب، وهذا عائد إلى أنَّ الإيقاع ترنيم صوتي يُكسب الجملة الشعرية تنغيماً لغوياً، وهو إيقاع أقل من إيقاع الوزن والقافية، لكنَّ النّص الشعري الجيّد لا غنى له عنه، وهذا ما يؤكّد اهتمام العرب بالمحسنات اللفظية والمعنوية، حيث أولوا هذا الجانب جلَّ اهتمامهم، لأنَّ القصيدة التي لا يوجد فيها إيقاع داخلي تقل أهميتها وتضعف فاعليتها، غير أنّهم لم يركزوا على هذا الجانب إلّا من خلال تحسين الكلام والحرص على جماليات التعبير، دون التعويل على الإيقاع الداخلي باعتبار أنّه مكمّل للوزن والقافية، والنظر إليه من زاوية موسيقى النّص الشعرية، لأنَّ هذا الإيقاع تجسيد لإحساس الشاعر بأبهى صورة، فيمنح المعنى قوة في التأثير والفاعلية، وهذا الكلام لا يعني أننا نشجّع على التكرار في استخدام كلمات معيّنة أو حروف أو إفراط في استخدام المحسنات، إذ أنَّ مثل هذه الأمور تصيب القصيدة بالضجيج الموسيقي الصاخب الذي
[39]عبد القاهر الجرجاني. أسرار البلاغة. ص26.
يجعل النفوس تشمئز من هذا العمل، وتصرف الأنظار عنه، مما يؤدي هذا الصخب الموسيقي المتسارع إلى انطفاء روح الإيقاع اللغوي في النّص. وتتحوّل القصيدة من مشروع شعري إلى شيء أشبه بالشعر، يقترب منه ولا ينتمي إليه، وذلك ” إنَّ الإيقاع في النظرة الشعرية العامة الجديدة، هو هذه الجمالية التي تندس داخل التفعيلة التي تقيم عناصر الإيقاع، فتحمل السامع على المتابعة والتلذذ والتذوق والتمتّع”[40].
فموسيقى الشعر تملأ القلوب والعقول بكل ما تحتاجه من قيم الحب والحياة، ويقيّد في دواخلنا ترتيب كل الأشياء المبعثرة، أو التي تاهت في خبايا العقل الباطن، وتغذّي فينا الشعور بما يناقضنا من حوائج الدنيا، وذلك أنّها حياة أخرى تسيل بين جوانحنا، وتعبر عقولنا وقلوبنا إلى الداخل الكامن فينا منذ أزمان وآماد بعيدة، وهذا ردّه إلى أنَّ اللغة العربية لغة أجراس موسيقية قادرة أن تؤثّر في نفسية المتلقي سواء كان ذلك المتلقي قارئاً أو مستمعاً، لأنَّ الإيقاع لديه القدرة على ترجمة ما لا يمكن للألفاظ ترجمتها، حيث يشدّ الاسماع ويسلب القلوب، ويأخذ منها كل مأخذ.
علاقة الصورة الشعرية بالخيال:
الصورة الشعرية صياغة فنيّة تهب المعنى شكلاً حسيّاً يمكّن حواس الإنسان الظاهرة والخفية من التفاعل معها تفاعلاً إيجابياً عن طريق تلقٍ مفتوح يتجدد باستمرار، كما تنوه على ذلك المناهج النقدية الحديثة والمعاصرة. ولما كان نقادنا القدامى قد تناولوا مفهوم الصورة الشعرية في منظومتين بلاغيتين هما المشابهة والمجاورة، اعتماداً على استقصاء الأوجه البيانية من تسبيه واستعارة وكناية ومجاز مرسل. فإنَّ نقادنا المحدثين جعلوا المفهوم مواكباً للفتوحات الإبداعية المستجدة بما فيها من تغيرات وتحولات، خاصة على أيدي رواد المدارس الأدبية والمناهج النقدية الحديثة. ولقد كان الخيال المبحث الأسمى من مباحث الأدب، والكلام الذي لا يدل على درجة من درجات الخيال لا يدخل باب الفن بحال من الأحوال، والخيال هو مصدر الصورة الخصب، ورافدها القوي، وسر الجمال فيها، وهو نظرية جديدة حديثة في مفهوم الصورة الفنيّة، حيث تعتمد عليه كلّية، وبناء عليه جاء البحث لبيان الوشائج (أعني الصورة الفنيّة) الذي غمض والتبس على الكثير من قرائنا والمشتغلين في حقل الإبداع والنقد الأدبي.
[40]عبد الملك مرتاض. قضايا الشعريات. الإمارات، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، لاط، 2010م، ص138.
تبدو كلمة أدب في ظاهرها موجزة بسيطة لا لبس فيها ولا تعقيد، ولكن محاولة الاقتراب منها لتعريفها تعريفاً دقيقاً، محدداً يبيّن لنا أنّها جدُّ معقدة، وحسبنا توضيح هذا التعقيد أن نذكر أنَّ الذين حاولوا تعريف هذه الكلمة لم يتفقوا بعد في تقديم تعريف محدد، جامع مانع لها، ولا تزال المحاولة التي يبذلها النقّاد والدارسون في تعريف الأدب وتفسيره، دليلاً واضحاً وبرهاناً قاطعاً على ما بينهم من اختلاف في تحديد معناها ومدلولها.
وقد جرت عادة الكثير من المؤلفين والدارسين للأدب أن يميزوه بالخيال والابتكار، فالأديب إنسان متخيل مبتكر، وقد خصّه الله تعالى بالحس المرهف والخيال الخصب، الذي يتيح له أن يتجاوز حرفية المعطيات، ويركّب من شتات العناصر شيئاً جديداً مبتكراً، لا يصل خياله عامة الناس إلى مثله وإن كانوا يعرفون من قبل هذه الأشتات المغرقة في العناصر، ولكنفي النهاية يقصر الخيال عن صياغة هذه العناصر المبعثرة والمتفرقة ذات النظم المبتكر.
فالخيال هو المبحث الأسمى من مباحث الأدب والكلام الذي لا يدل على درجة من درجات الخيال، لا يدخل باب الفن بحال من الأحوال، ومن هنا أمكننا أن نقول بأنَّ الخيال عنصراً أساسياً من عناصر النقد الأدبي.
ولا يزال الخيال محوراً نقدياً هاماً في الدراسات والمناقشات النقدية، حيث حاول النقاد المعاصرون أن يطلعوه بطابع يتفق ودوره في تشكيل الصورة الفنيّة المبدعة والتي تعبّر عن الفنان وذاته في آنٍ واحد.
فالخيال أداة الصورة الفنيّة ومصدرها، فإنَّ الحديث عن الصورة الفنيّة التي هي المصطلح الأكثر التباساً في النقد الحديث والمعاصر، ليس لتعدد مفاهيم هذا المصطلح، بل لارتباطه وتداخله مع مصطلحات أخرى كالصورة الفنيّة والأدبية والبيانية والبلاغية.
وقد اختلف النقّاد في قضية تأصيل المصطلح، فمنهم من دافع عن أصالته في نقدنا العربي القديم، ومنهم من تعصّب لحداثته، لا يرى أي امتداد تراثي فيه. والمتّبع في تراثنا النقدي والبلاغي والفلسفي القديم، يجد ورود لفظ الصورة في نصوصهم النقدية والبلاغية والفلسفية القديمة، وسنقتصر على إيراد النصوص التي يقترب فيها اللفظ من المصطلح الحديث، ويطالعنا في البدء تعريف الجاحظ للشعر، يقول “إنّما الشعر صناعة، وضرب من النسيج، وجنس من التصوير”[41].
ولكنّ اشتغال الجاحظ بثنائية اللفظ والمعنى جعلته لا يقدّم لنا مفهوماً متماسكاً عن فكرة التصوير. فالمعاني كلّها معروضة للجميع، ويحق لأيٍّ أن تكلّم فيما أحب ويؤثر من غير أن يحضر عليه معنى يروم الكلام فيه، وإذا كانت المعاني للشعر توضع بمنزلة المادة الموضوعة له، فالشعر عندها يصبح كالصورة، بحيث يصبح تأثير الصورة فيها مثل الخشب للنجارة والفضة للصياغة
فالصورة حسب مفهوم قدامة ” الوسيلة أو السبيل لتشكيل المادة وصوغها شأنها في ذلك شأن غيرها من الصناعات، وهي أيضاً نقل حرفي للمادة الموضوعة، المعنى يحسنها ويزينها ويظهرها حلية تؤكّد براعة الصائغ من دون أن يسهم في تغيير هذه المادة أو تجاوز صلاتها، أو علائقها الوضعية المألوفة”[42]
وقد ربط القاضي الجرجاني في وساطته الصورة بروابط شعورية تصلها بالنفس وتمزجها بالقلب في موقفه، وهو يدافع عن المتنبي فيقول: ” أمر تستخبر به النفوس المهذبة وتستشهد عليه الأذهان المثقفة، وإنّما الكلام أصوات محلّها في الأسماع محل النواظر من الأبصار، وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن وتستوفي أوصاف الجمال، وتذهب في الأنفس كل مذهب، وتقف من التمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن، والتئام الخلقة، وتناصف الأجزاء، وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة وأدنى إلى القبول وأعلق بالنفس وأسرع ممازجة للقلب ثم لا تعلم وإن قامت واعتبرت ونظرت وفكّرت لهذه المزية سبباً، ولما اختصت به مقتضياً”
وبقي هذا المفهوم الذي صاغه القاضي الجرجاني للصورة مجرّد إحساس محض إلى أن جاء عبد القاهر الجرجاني، فاقترب بهذا المفهوم إلى المفهوم المعاصر وارتبط هذا بنظريته المشهورة في النظم، فلم ينظر عبد القاهر الجرجاني إلى الشعر على أنّه معنى أو مبنى يسبق أحدهما الآخر، بل نظر إليه جملة واحدة، على أنّه معنى ومبنى ينتظمان في الصورة لا سبق، ولا فضل ولا مزيّة لحدهما عن الآخر، كما يقول عبد القاهر الجرجاني في هذا الصدد: ” واعلم أن قولنا الصورة إنّما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه
[41]الجاحظ. الحيوان. تحقيق عبد السلام هارون. ص132.
[42]قدامة بن جعفر. نقد الشعر. ص37.
بأبصارنا. فلما رأينا البنيوية بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة مكان ما بين إنسان من إنسان وفرس من فرس بخصوصية تكون في هذا، ولا تكون صورة ذاك…ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه وبين الآخر بينونة في عقولنا وفرقاً، وعبّرنا عن ذلك الفرق بالصورة شيئاً نحن ابتدأناه فينكره منكر، لا هو مستعمل في كلام العلماء، ويكفيك قول الجاحظ ” وإنّما الشعر صناعة، وضرب من التصوير”[43].
والذي يمكن أن نستخلصه من هذا النّص انَّ لفظ الصورة لم يكن من إبداع عبد القاهر الجرجاني، لا كان مستعملاً قبله في قول العلماء، وإنّه تمثيل وقياس، فإن كان الاختلاف بين الأشياء الموجودة في الطبيعة إنّما يكون في الصور المختلفة التي تتخذها الأشياء، فالأمر يختلف بالنسبة للمعاني، فالاختلاف بين المعاني في أبيات الشعر المختلفة راجع إلى الاختلاف بين الصور التي تتخذها المعاني في تلك الأبيات المختلفة. وجلي أنَّ الصورة هنا لا تشير إلى مفهوم التقديم الحسي، بقدر ما تشير إلى طريقة الصياغة أو النظم التي بها، وتتحد تبعاً لها قيمة النّص الأدبي.
ويتوسل الشعر في النقد بالمحاكاة، أو بالتخيل بمعنى أدق، وهو المرتبط بالخيال في التصوير الفني. فالتخييل هو العنصر الهام في الشعر، وهو المؤثّر في النفس، لا هو المحك على جودة الشعر أو رداءته، ولهذا التخييل في الشعر هو العلم في قيمته، وقدرة الخطيب على الاقناع في خطابته، لأنَّ هدف التخييل أو المحاكاة الإثارة والحفز إلى الفعل بغض النظر عن صدق التخييل أو عدم صدقه، حقيقته في ذاته أو عدم ذلك، فهو السبب في قدرته على التأثير، وذلك لما يسببه من جمال واستمتاع ولذة في سماع الشعر وقراءته.
والمتتبّع لدراسة الخيال عبر العصور يجد اختلافاً كبيراً في اهتمام النقّاد والفلاسفة بها، ويرجع هذا الاختلاف بين النقّاد والفلاسفة إلى اختلاف اتجاهات الأدباء، وطبيعة كل عصر وقيمه الفنيّة.
إنَّ أدب قدماء اليونان قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بمعتقداتهم الدينية، ومعبوداتهم التي ألهمت الشعراء والأدباء، وخلّدت أعمالهم الأدبيّة التي لا زال التاريخ إلى يومنا يحفظ لنا منها الكثير.
فقد عبد اليونان في تاريخهم القديم آلهة متعددة، واعتقدوا أنّها تتحكّم في القوى الطبيعية، وتصوروا أنّها ذات طبيعة بشرية تعيش كعائلة واحدة في جبل “الأولمب” وتفننوا في
[43]الجاحظ. الحيوان. تحقيق عبد السلام هارون، ص132.
تكريمها ببناء المعابد، ونحت التماثيل، وإقامة الحفلات التي تتخللها مهرجانات رياضية، ويعدّ “زوس” كبير الآلهة و ” إيريس” إله الحرب و ” أفروديتا” إلهة الحب والجمال، و “آبولون” إله الشمس والموسيقى و ” أيثنا” إله الحكم والذكاء…من أشهر الآلهة التي عبدوها.
وقد ألفت حول هذه الآلهة قصصاً وأساطير تسرد أعمالهم وكفاحهم وبلاءهم الذي خولهم أن يرتقوا إلى مرتبة الألوهية والتقديس، فتلقّف الشعب اليوناني هذه القصص والأساطير، ودخلت قلوبهم، فتكونت منها عقيدتهم.
ولقد سجّل لنا الشعر اليوناني تلك القصص والأساطير، ثم كانت من بعد ملاحم ومسرحيات يقوم بتمثيلها عدد من الممثلين المنشدين، وتشهدها الألوف من النظارة في المسارح.
وتأتي الإلياذة والأوذيسا المنسوبتان إلى شاعر اليونان ” هوميروس” في طليعة تلك الأعمال التي خلدها لنا التاريخ.
وكان من الطبيعي أن ينشأ وراء هذا التراث الأدبي الضخم نقد يقوم بتقويم هذه الأعمال، وقد كان الفلاسفة والمفكرون في مقدمة نقّاد الأدب، لأنَّ الأدب كان عندهم يمثّل جانباً مهماً من جوانب التفكير، ويأتي سقراط وأفلاطون وأرسطو في طليعة أولئك الفلاسفة والمفكرين والمهتمين بالأدب ونقده.
اعتبر سقراط أنَّ الخيال نوع من الجنون وظلَّ هذا الاعتبار سائد عند أفلاطون الذي كان يؤمن بأنَّ الخيال ضرب من الجنون تولّده ربات الشعر وآلهته في نفس الشاعر فكلّ الشعراء المجدّين، شعراء الملاحم وشعراء الغناء على السواء ينشدون شعرهم الجميل ليسبهدف الفن والحذق، ولكن يوحي إليهم، ولأن الروح تقتنصهم.
واستناداً إلى فلسفته المثالية التي ترى أنَّ الوعي أسبق في الوجود من المادة.حكم أفلاطون على الفنون بما فيها الشعر على أنّها قائمة على التقليد أو بعبارة أدق على محاكاة المحاكاة. فأفلاطون يرى أنَّ عمل الأديب يشبه المرآة فمحاكاته للأشياء، والظواهر الخارجية آلة فوتوغرافية، ولذلك فهو لا يقدّم إلّا صورة مشوّهة للعالم، أو بعبارة أخرى تقليد للتقليد.
وتبعاً لهذا رفض أفلاطون الفن بعامة، لأنّه: ” لايمس الحقيقة، بل يكتفي بتمثيل معطيات الحواس التي هي في حد ذاتها صورة مشوهة”.
وقد تتبّع أرسطو خطى أستاذه أفلاطون في أنَّ الشعر ضرب من المحاكاة، إلّا أنّه منح مفهوم المحاكاة هذا مفهوماً جديداً مغايراً لأستاذه.
فإذا كان أفلاطون قد عمم المحاكاة على جميع الظواهر والأشياء الخارجية، فإنَّ أرسطو قد قصّر مفهوم المحاكاة على الفنون الجميلة المعروفة، ولم يرَ في المحاكاة النقل الحرفي لمظاهر الطبيعة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حينما أوجب على الشاعر الذي يريد أن يصوّر الأشياء ب” أن يضع نصب عينيه إحدى غايات ثلاث:
-أن يصوّر الأشياء كما كانت وتكون.
-أو كما يعتقد كيف تكون.
-أو كما ينبغي أن تكون.
دراسة نماذج من الشعر القديم والحديث:
إنَّ الشعر هو أحد أبرز الفنون الخالدة من فنون الأدب، وهوفن خالد بسبب عناصر كثيرة ساهمت في هذا الخلود من براعة التصوير، وحسن الأسلوب، وتوظيف الخيال بشكل ملائم مع الحالة الإبداعية. والصورة هي عنصر رئيس من عناصر الشعر العربي عامة والشعر العربي الحديث خاصة. إذ أنَّ الشعر العربي القديم لم يحفل بالصورة كما حفل بها الشعر العربي الحديث. فقد كانت الصورة في الشعر العربي القديم تأتي عفو الخاطر، أي لا يقتصّد الشاعر القديم مجيئها، في حين أنَّ الشاعر العربي الحديث يأتي بها في أماكن محددة ويقصد بها مقاصد محددة أيضاً.
فالصورة هي تصوير الشاعر للحالة الإبداعية تصويراً فنيّاً مبرزاً فيه براعته الأسلوبية، وقوة ملكته الإبداعية لديه وهي الخيال، وكلما كانت صورته الإبداعية هذه بعيدة عن الحسيّة وأقرب إلى الخيال، كانت أجمل وأشدّ براعة وجمالاً ولكن ما معنى هذا الكلام؟؟
سنأخذ مثالين عن الصورة الفنيّة، الأول منهما عن الصورة الفنيّة في الشعر العربي القديم، والثاني منهما عن الصورة الفنيّة في الشعر العربي الحديث، لنتعرّف أكثر عن الصورة الفنيّة وخصائصها.
المثال الأول: الصورة الفنيّة في الشعر العربي القديم:
يقول الشاعر الجاهلي امرؤ القيس
كأنّي غداة البين يوم تحمّلوا لدى سمُرات الحب ناقف حنظل[44]
يتحدّث الشاعر هنا عن لحظة مشاهدته لقوافل محبوبته وهي تهمًّ بالرحيل، فيصوّر مشاعره النفسية في أثناء هذا الرّحيل.
معنى البيت في ذلك الوقت (الغداة) وقت رحيل محبوبتي، وأنا واقف بجانب أشجار(السمّر) أشاهد قوافلها وهي تهمّ بالرحيل، انهمرت الدموع من عينيي انهماراً غزيراً كأنني أشقّ نبات الحنظل الذي يُدمع العينان لشدة مرارته. هذا المشهد الذي يصوره لنا الشاعر نسميه الصورة الفنيّة: أي هو يصوّر المشهد الذي عاشه وعاينه وقت رحيل محبوبته تصويراً فنيّاً عبر هذا البيت الشعري.
–التعليق على طريقة التصوير الفنّي:
إنَّ الصورة الفنيّة قد تكون حسيّة، ولكنّها كلما كانت أبعد عن الحسية وأقرب إلى الخيال كانت أشدّ تأثيراً في المتلقي. والحسيّة هي ما نستطيع الإحساس به من خلال حواسنا الخمس، كتذوقه، أو لمسه، أو شمّه، أو رؤيته، أو سمعه. والشاعر في البيت السابق كان يصوّر تصويراً حسيّاً، لأنَّ صورة الدموع المنهمرة هي صورة حسيّة مرئية موجودة في الواقع وبعيدة كل البعد عن الخيال، ولكن هل هي صورة لا قيمة لها لبعدها عن الخيال؟؟
إنَّ الشاعر كان يأخذ تصويره من البيئة المحيطة به، فهو شاعر جاهلي، والعصر الجاهلي هو عصر بدائي وغير متطوّر، فالبيئة صحراوية، وهذه البيئة لا تحتوي سوى النبات الصحراوي والحيوانات الصحراوية، والحنظل هو نبات صحراوي مرّ الطعم شديد النفاذ إذا قطع. وما فعله الشاعر هو أنّه استمدَّ تصويره من البيئة المحيطة، ولكننا لا نستطيع أن نقول إنّه لم يُعمل خياله في هذا التصوير، بل إنّه أعمل خياله ويشكل ملحوظ، فالشاعر فكّر مليّاً ورأى أنَّ نبات الحنظل شديد النفاذ ويؤثّر تأثيراً شديداً في العينين، فأراد الشاعر أن يبالغ في الحزن على رحيل محبوبته وابتعادها عنه، ففكّر في ذرف الدموع مليّاً علّه يعبّر بذلك عن شدة حبه وتعلقه بها.
[44]يحي شامي. شرح المعلقات العشر. بيروت، دار الفكر العربي،ط1، 1994، ص14.
ومن هنا جاء الخيال، ولكنّ هذا الخيال هو خيال لا يخرج عن نطاق الواقع، بيد أنّه تصوير بارع/ ولكنّ البراعة لم تأتِ عن طريق الحسيّة، وإنّما جاءت عن طريق المبالغة في ذرف الدموع. وهذا مثال واحد عن الشعر العربي القديم، ولكن أغلب الشعر العربي القديم كان التصوير فيه يميل إلى الحسيّة، ولا يقترب من الخيال الحق، وذلك بسبب البيئة الضّيقة التي عاش فيها.
المثال الثاني: الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث:
ونلاحظ اختلافاً واضحاً في التصوير وابتعاداً شبه كامل عن الحسيّة، إذ يبدو الخيال هو سيّد التصوير، وسنأخذ مثالاً عن الصورة الفنيّة في الشعر العربي الحديث حيث يقول نزار قباني: ” يسمعني حين يراقصني
كلماتٍ ليست كالكلمات
يأخذني من تحت ذراعي
يزرعني
في إحدى الغيمات
والمطر الأسود في عيني
يتساقط زخات زخات”[45]
الشاعر هنا يصوّر حفلة راقصة، إذ كان يراقص فيها امرأة ويتبادلان الكلمات والنظرات، ولكن ما يجب الانتباه إليه هو أنَّ المتكلّم في هذا الشعر هي المرأة، أي أنَّ الشاعر كتب هذا الشعر على لسان هذه المرأة التي قد تكون محبوبته، وقد تكون مجرّد راقصة رقص معها في تلك الحفلة.
التعليق على طريقة التصوير الفنّي:
هذا المقطع الشعري الذي عرضناه يحوي صورتين فنيتين هما: يزرعني في إحدى الغيمات، والمطر الأسود في عينيى يتساقط زخات زخات. وسنتكلّم على الصورة الثانية فقط لأنّها الأبرز والأجمل.
[45]ويكيبيديا الموسوعة الحرّة.
نلاحظ أنَّ الشاعر يصوّر نظرات الرجل وهي تقع في عيني تلك المرأة المحبة لا المحبوبة، فيصوّر تلك النظرات على أنّها تنبعث من عينيه إلى عينيها كأنّها مطر أسود يتساقط زخات زخات.
ولكن لماذا كانت النظرات مطراً أسود ولم تكن مطراً أبيض أو شفافاً على سبيل المثال؟؟ هذا يدلنا على أنَّ لون عيني هذا الرجل هو أسود. وبالتالي فإنَّ النظرة تحولت إلى قطرة والقطرة تلوّنت بلون عينيه ثن انبعثت من عينيه على شكل زخّة مطر أسود.
نلاحظ في هذه الصورة الفنيّة الخيال الشعري المتوقّد لدى هذا الشاعر الفذ، كما أنّنا لم نشعر بالحسيّة بشكل كبير ولو أنّه حوّل النظرات إلى مطر لأنّه فاجأنا بقوله (المطر الأسود)، فعندما لوّن المطر باللون الأسود ابتعد عن الواقع، وأبحر في بحر الخيال، لأنَّ الواقع يقرّر أنَّ المطر لا لون له، وبالتالي هو ابتعد عن الواقع ونزع إلى الخيال.
وهكذا نرى كيف أنَّ الصورة الفنيّة في المثال الثاني كانت أشد تأثيراً من المثال الأول، فالشعر العربي الحديث لجأ إلى الخيال في التصوير، ولكننا لا ننكر براعة الشاعر العربي القديم في التصوير الفني فهو لو كان يميل إلى الحسيّة، إلّا أنّه كان يعمد دائماً إلى اللجوء لعناصر أخرى تظهر قوة القريحة الشعرية لدى هذا الشاعر الأصيل.
ومع هذا، فلم تعد الصورة الشعرية وحدها هدفاً للتصوير، بل إنَّ الثورة على القالب الشعري الحاضن لها كان مطلباً أكبر، وفي خضمِّ المعركة المستمرة بين النسقين التقليدي والحداثي ولدت صور شعرية عميقة ورائعة ضمن المدرستين العمودية والتفعيلية، وإن ارتبطت الحداثة بمؤثرات كبرى سياسية هي أنّنا نمثّل الطرف المنهزم في عصرنا، فكان علينا تلقي ثقافة المنتصر برحابة صدر عبر الترجمات وزحف النسق الأممي عموماً على مجال انساقنا جميعاً.
لكنّ البحث عن صورة أكثر عمقاً أدى إلى إغراق مكتبة الشعر العربي المعاصر بموج هائل من النصوص العبثية الموغلة في الغموض والانحراف عن المحددات الأدبية، المعرفة للرمز وآليات توظيفه شعرياً.
الخاتمة:
تبرز الصورة الشعرية بوصفها أداة كشف يتسلل بها الشاعر إلى باطن النفس، ودهاليز الوجود المظلمة، ليعريّها ويكشف عن مكنونها، وهي في بعض تجلياتها يضيق عليها هذا العالم الفسيح، فتخرج من محيطه، لتؤسس لها عالماً آخر يقوم على الحلم واستشراف الآتي، واستبطان المجهول، وبذلك تتخلى عن عفويتها وطبيعتها البدائية الأولى التي طالما عرفت بها في مختلف مراحل الشعر الكلاسيكي، قديمة وحديثة، حين كانت وسيلة لمحاكاة الأشياء، وتوضيح الأفكار وتأكيد المعاني.
الصورة الشعرية لم تقف في زمن أو عصر، أو لدى فئة أو مجتمع عند حدود وقوالب، بل هي تتطور وتنقلب على البلاغة والنحو، وتخرج على المألوف بأسلوب يجعل منها إبهاراً يمثّل عقلية وفكر المنتج سواء في الشعر أو النثر أو الفنون المختلفة التي تكون الصورة إحدى أدواتها التعبيرية لتوصيل الرسالة إلى المتلقي، فتأخذ الصورة دلالات وتقلب المفاهيم والصور المستخدمة في عصر ما، وكنّا ندهش ونعجب بها فيستخدمها شاعر آخر، فيصنع من هذه الصورة صورة أجمل وأكثر ابهاراً بصيغ جديدة وفق أدوات وتقنيات يتفنن فيها.
وهذا يعني أنّنا بدراستنا للحداثة وما بعدها، وكل مناهج النقد الغربية المتطورة بسعينا نحو تقبّل الآخر والانفتاح لأخذ ما ينفع أدبنا، وعلينا في الوقت ذاته الرجوع إلى تراثنا البلاغي والنقدي الذي أسهم بشكل كبير في رفد الساحة والمشهد الثقافي العالمي بمناهج ونظريات ما زالت تعطي ثمارها، ولا نُبخس حقوق مبدعينا ومنظرينا.
قائمة المصادر والمرجع:
- ابن جعفر قدامة. نقد الشعر. بيروت، دار الكتب العلمية، لاط، لات.
- ابن منظور. لسان العرب. بيروت، دار لسان العرب، مادة ص. و. ر.، 2/492.
- أدونيس. مقدمة الشعر العربي. بيروت، دار العودة، لاط، 1971م.
- أرسطو. فن الشعر. ترجمة محمد شكري عياد، القاهرة، دار الكتاب العربي، 1967م.
- أوفيسيانيكوف مخائيل. مشكلات علم الجمال الحديث قضايا وآفاق. ترجمة فريق من دار الثقافة الجديدة، القاهرة، دار الثقافة الجديدة، لاط، 1979م.
- التطاوي عبد الله. الصورة الفنيّة. القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، لاط، لات.
- الجاحظ. الحيوان. تحقيق عبد السلام هارون. القاهرة، مكتبة الخانجي، ط3، لات.
- الجاحظ. الحيوان. تحقيق عبد السلام هارون. القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة. لاط، 2002م.
- الجرجاني عبد القاهر. دلائل الإعجاز. القاهرة، دار المعرفة، لاط، لات.
- الجرجاني عبد القاهر. أسرار البلاغة. تحقيق. ه. ريتر. استانبول، مطبعة وزارة المعارف، ط6، 1959م.
- الجيوسيسلمى الخضراء. الشعر العربي المعاصر تطوره ومستقبله. مجلة عالم الفكر الكويتية، يوليو-سبتمبر،1973م، عدد2، مج4.
- الخالدي صلاح عبد الفتاح. نظرية التصوير الفنّي عند سيد قطب. الجزائر، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، لاط، 1988م.
- الداية فايز. جماليات الأسلوب. بيروت، دار الفكر المعاصر، ط1، 1990م.
- دهمان أحمد علي. الصورة البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني. مصر، مصر العربية للنشر والتوزيع، ط2، 2000م.
- رماني إبراهيم. الغموض في الشعر العربي. الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، لاط، لات.
- السيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر. المزهر في علوم اللغة وأنواعها. بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1998م، مج2.
- شامي يحي. شرح المعلقات العشر. بيروت، دار الفكر العربي، ط1، 1994.
- عباسإحسان. فن الشعر. بيروت، دار الثقافة، ط2، 1959م.
- عبد الرحمن عائشة. قيم جديدة في الأدب العربي. مصر، دار المعارف، لاط، لات.
- العسكري أبو الهلال. الصناعتين الكتابة والشعر. تحقيق مفيد قميحة، بيروت، دار الكتب العلمية، ط2، 1984م.
- عصفور جابر. الصورة الفنيّة في التراث النقدي والبلاغي عند العرب. بيروت، المركز الثقافي العربي، ط3، 1992م.
- العقاد. الديوان في الأدب والنقد. القاهرة، هيئة الكتاب، لاط، لات، ج1.
- عياد شكري. كتاب أرسطو طاليس في الشعر. القاهرة، هيئة الكتاب، لاط، 1993م.
- عيكوسالأخضر. الخيال الشعري وعلاقته بالصورة الشعرية. مجلّة الآداب. عدد1، 1994م.
- القط عبد القادر. الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر. بيروت، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، ط2، 1981م.
- قطب سيّد. النقد الأدبي أصوله ومناهجه. بيروت، دار الشروق، ط5، 1983م.
- محمدالولي. الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي. بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 1990م.
- مرتاض عبد الملك. قضايا الشعريات. الإمارات، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، لاط، 2010م.
- مورو فرانسوا. البلاغة المدخل لدراسة الصور البيانية. ترجمة محمد الوالي وعائشة جرير، المغرب، إفريقيا الشرق، 2003م.
- ناصيف مصطفى.الصورة الأدبية. بيروت، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، 1983م.
- هلال محمد غنيمي. النقد الأدبي الحديث. بيروت، دار العودة، لاط، 1973م.
- وهبة مجدي. معجم مصطلحات الأدب. بيروت، مكتبة لبنان، لاط، 1974م.
- اليافي نعيم. مقدمة لدراسة الصورة الفنيّة. دمشق، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، لاط، 1982م.
- مجلّة الرسالة-المجلّد الثاني. السنة الثانية، العدد 64، تاريخ 24/9/1934.
- ويكيبيديا الموسوعة الحرّة.
الفهرس
-مقدمة 3
-مفهوم الصورة لغة 4
-مفهوم الصورة اصطلاحاً 5
-الصورة الشعرية بين الدراسة والنقد 6
-مفهوم الصورة عند القدماء 12
-مفهوم الصورة عند الغربيين 13
-مفهوم الصورة عند العرب المحدثين 14
-الصورة الشعرية بيت الجمالية والانزياح عن المألوف 15
-الصورة الشعرية وعلاقتها باللغة 16
-علاقة الصورة الشعرية بالإيقاع 17
أ-مفهوم الإيقاع الخارجي 18
ب-مفهوم الإيقاع الداخلي 18
-علاقة الصورة بالخيال 20
-دراسة نماذج من الشعر القديم والحديث 25
-الخاتمة 28
-قائمة المصادر والمراجع 30
-الفهرس 32